رمزا ، ولا يخاطبون إلّا إيماء فلا تسمع لهم ركزا ، فكلّم فيه خصما له كلاما استطال به عليه لفضل بيانه ، وطلاقة لسانه ، ففارق عادة المجلس في رفض الأنفه ، وخفض الحجّة المؤتنفة ، وهزّ عطفه وحسر عن ساعده ، وأشار بيده ، مادا بها لوجه خصمه ، خارجا عن حدّ المجلس ورسمه ، فهمّ الأعوان بتقويمه وتثقيفه ، ووزعهم رهبة منه وخشية ، حتى تناوله القاضي بنفسه ، وقال له : مهلا ، عافاك الله ، اخفض صوتك ، واقبض يدك ، ولا تفارق مركزك ، ولا تعد حقّك ، وأقصر عن إدلالك ، فقال له : مهلا يا قاضي ، أمن المخدّرات أنا فأخفض صوتي وأستر يدي (١) ، وأغطي معاصمي لديك؟ أم من الأنبياء أنت فلا يجهر بالقول عندك؟ وذلك لم يجعله الله تعالى إلّا لرسوله عليه الصلاة والسلام ، لقول الله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ) [سورة الحجرات ، الآية : ٢] ـ إلى قوله : (تَشْعُرُونَ) [سورة الحجرات ، الآية : ٢] ولست به ولا كرامة ، وقد ذكر الله تعالى أنّ النفوس تجادل في القيامة في موقف الهول الذي لا يعدله مقام ، ولا يشبه انتقامه انتقام ، فقال تعالى (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها) [ورة النحل ، الآية : ١١١] ـ إلى قوله تعالى : (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) [سورة النحل ، الآية: ١١١] لقد تعديت طورك ، وعلوت في منزلك ، وإنما البيان ، بعبارة اللسان ، وبالنطق يستبين الحقّ من الباطل ، ولا بدّ في الخصام ، من إفصاح الكلام. وقام وانصرف. فبهت القاضي ، ولم يحر جوابا ، وكان في الدولة صدرا من أعيانها ، وناسق درر تبيانها ، نفق (٢) في سوقها وصنّف ، وقرّط محاسنها وشنّف ، وله الكتاب الرائق ، المسمّى بالحدائق ، وأدركه في الدولة سعي ، ورفض له فيها الرّعي ، واعتقله الخليفة وأوثقه في مكان أخيه فلم يومض له عفو ، ولم يشبّ كدر حاله صفو ، حتى قضى معتقلا ، ونعي للنائبات نعيا مثكلا ، وله في السجن أشعار كثيرة ، وأقوال مبدعات منيرة ، فمن ذلك ما أنشده ابن حزم يصف خيالا طرقه ، بعد ما أسهره الوجد وأرّقه : [الوافر]
بأيّهما أنا في الشّكر بادي |
|
بشكر الطّيف أم شكر الرقاد (٣) |
سرى وازداد في أملي ولكن |
|
عففت فلم أجد منه مرادي |
وما في النوم من حرج ولكن |
|
جريت من العفاف على اعتيادي |
وقال الشاعر المشهور أبو عبد الله محمد بن الحدّاد (٤) : [البسيط]
يا غائبا ، خطرات القلب محضره |
|
الصّبر بعدك شيء لست أقدره |
__________________
(١) في ه : «ولا أشير بيدي».
(٢) في ب : «ونفق في سوقها».
(٣) في ه : «بأيهما أنا في الشكر نادي» والرقاد : النوم.
(٤) انظر المطمح ص ٨٠ ـ ٨٣.