وأمثال هذا كثير ، وإنما جئت بحصاة من ثبير (١).
وأمّا كرم النّفس وشمائل الرياسة فأنا أحكي لك حكاية تتعجّب منها ، وهي ممّا جرى في عصرنا ، وذلك أن أبا بكر بن زهر نشأت بينه وبين الحافظ أبي بكر بن الجد عداوة مفرطة للاشتراك في العلم والرياسة وكثرة المال والبلدية ، فأجرى ابن زهر يوما ذكره في جماعة من أصحابه ، وقال : لقد آذانا هذا الرجل أشدّ أذيّة ، ولم يقصر في القول عند أمير المؤمنين وعند خواصّ الناس وعوامّهم ، فقال له أحد عوامّهم : إني أذكر لك عليه عقدا فيه مخاصمة في موضع ممّا يعزّ عليه من مواضعه ، ومتى خاصمته في ذلك بلغت منه في النكاية أشدّ مبلغ ، فخرج ابن زهر ، وأظهر الغضب الشديد ، والإنكار لذلك ، وقال لوكيله : أمثلي يجازى على العداوة بما يجازى به السفل والأوباش؟ وإني أجعل ابن الجد في حل من موضع الخصام ، وأمر بأن يحمل له العقد ، ثم قال : وإني والله ما أروم بذلك أن أصالحه (٢) ، فإنّ عداوته من حسد ، وأنا أسأل الله تعالى أن يديمها ؛ لأنها مقترنة بدوام نعم الله عليّ.
وإن تعرضت إلى ذكر البلاد ، وتفسير محاسنها ، وما خصّها الله تعالى به ممّا حرمه (٣) على غيرها ، فاسمع ما يميت الحسود كمدا :
أما إشبيلية فمن محاسنها اعتدال الهواء ، وحسن المباني ، وتزيين الخارج والداخل ، وتمكن التمصّر ، حتى أنّ العامّة تقول : لو طلب لبن الطير في إشبيلية وجد ، ونهرها الأعظم الذي يصعد المدّ فيه اثنين وسبعين ميلا ثم يحسر ، وفيه يقول ابن سفر : [الكامل]
شقّ النسيم عليه جيب قميصه |
|
فانساب من شطّيه يطلب ثاره |
فتضاحكت ورق الحمام بدوحها |
|
هزأ فضمّ من الحياء إزاره (٤) |
وزيادته على الأنهار كون ضفّتيه مطرّزتين (٥) بالمنازه والبساتين والكروم والأنسام (٦) متّصل ذلك اتّصالا لا يوجد على غيره.
وأخبرني شخص من الأكياس دخل مصر وقد سألته عن نيلها أنه لا تتّصل بشطّيه البساتين
__________________
(١) ثبير ، بفتح الثاء : اسم جبل ، أراد أنه أتى بقليل من كثير.
(٢) في ه : «ما أروم بذلك أصالحه».
(٣) في ب : «حرّمها على غيرها».
(٤) في ب : «هزءا فضمّ ...» تسكين الثاني المتحرك ، وهو جواز في الوزن.
(٥) في ه : «مطرزة بالمنارة».
(٦) الأنسام : جمع نسيم على غير قياس. وفي ب «الأنشام» : والأنشام : أشجار تتخذ منها القسي.