ذلك ، ولكن جعلت إشبيلية ، بل الله جعلها أمّ قراها ، ومركز فخرها وعلاها ، إذ هي أكبر مدنها ، وأعظم أمصارها.
وأما قرطبة فكرسي المملكة في القديم ، ومركز العلم ومنار التقى ومحلّ التعظيم والتقديم ، بها استقرّت ملوك الفتح وعظماؤه ، ثم الملوك المروانية ، وبها كان يحيى بن يحيى راوية مالك ، وعبد الملك بن حبيب ، وقد سمعت من تعظيم أهلها للشريعة ، ومنافستهم في السؤدد بعلمها ، وأنّ ملوكها كانوا يتواضعون لعلمائها ، ويرفعون أقدارهم ، ويصدرون عن آرائهم ، وأنهم كانوا لا يقدّمون وزيرا ولا مشاورا لما لم يكن عالما ، حتى أنّ الحكم المستنصر لمّا كره له العلماء شرب (١) الخمر همّ بقطع شجرة العنب من الأندلس ، فقيل له : فإنها تعصر من (٢) سواها ، فأمسك عن ذلك. وأنهم كانوا لا يقدمون أحدا للفتوى ولا لقبول الشهادة حتى يطول اختباره ، وتعقد له مجالس المذاكرة ، ويكون ذا مال في غالب الحال خوفا من أن يميل به الفقر إلى الطمع فيما في أيدي الناس فيبيع به حقوق الدين ، ولقد أخبرت أن الحكم الربضي أراد تقديم شخص من الفقهاء يختصّ به للشهادة ، فأخذ في ذلك مع يحيى بن يحيى وعبد الملك وغيرهما من أعلام العلماء ، فقالوا له : هو أهل ، ولكنه شديد الفقر ، ومن يكون في هذه الحالة لا تأمنه على حقوق المسلمين ، لا سيما وأنت تريد انتفاعه وظهوره في الدخول في المواريث والوصايا وأشباه ذلك ، فسكت ولم ير (٣) منازعتهم ، وبقي مهموما من كونهم لم يقبلوا قوله ، فنظر إليه ولده عبد الرحمن الذي ولي الملك بعده ، وعلى وجهه أثر ذلك ، فقال : ما بالك يا مولاي؟ فقال : ألا ترى لهؤلاء الذين نقدمهم وننوّه عند الناس بمكانهم ، حتى إذا كلفناهم ما ليس عليهم فيه شطط ، بل ما لا يعيبهم (٤) ، ولا ممّا هو يرزؤهم (٥) ، صدّونا عنه ، وغلقوا أبواب الشفاعة ، وذكر له ما كان منهم ، فقال : يا مولاي ، أنت أولى الناس بالإنصاف ، إنّ هؤلاء ما قدمتهم أنت ولا نوّهت بهم ، وإنما قدّمهم ونوّه بهم علمهم ، أو كنت تأخذ قوما جهالا فتضعهم في مواضعهم؟ قال : لا ، قال : فأنصفهم فيما تعبوا فيه من العلم لينالوا به لذة الدنيا وراحة الآخرة ، قال : صدقت ، ثم قال : وأمّا كونهم لم يقبلوا هذا الرجل لشدّة فقره فالعلّة في ذلك تنحسم بما يبقي لك في الصالحات ذكرا ، قال : وما هو؟ قال : تعطيه من مالك قدر ما يلحق به من الغنى ما يؤهّله لتلك المنزلة ، ويزيل عنك خجل ردّهم لك ، وتكون هذه مكرمة ما سبقك إليها أحد ، فتهلّل وجه الحكم وقال : إليّ إليّ ، إنها والله شنشنة عبشمية (٦) وإنّ الذي قال فينا لصادق : [الطويل]
__________________
(١) في ه : «بعض الخمر».
(٢) في ج : «تعصر في سواها».
(٣) في ج : «ولم يرد منازعتهم».
(٤) في ه : «بل ما لا يعنيهم».
(٥) في ب : «ولا هو مما يرزؤهم».
(٦) شنشنة : خلق. وعبشمية : نسبة إلى عبد شمس.