وقد أشرف على الموت : اسأل ربّك المغفرة ، فرفع يديه وقال : يا ربّ ، أسألك من جميع ما في الجنّة خمر مالقة وزبيبيّ إشبيلية ، وفيها تنسج الحلل الموشيّة التي تجاوز أثمانها الآلاف ذات الصور العجيبة المنتخبة برسم الخلفاء فمن دونهم ، وساحلها محطّ تجارة لمراكب المسلمين والنصارى.
وأما المريّة فإنها البلد المشهور الذكر ، العظيم القدر ، الذي خصّ أهله باعتدال المزاج ، ورونق الديباج ، ورقّة البشرة ، وحسن الوجوه والأخلاق ، وكرم المعاشرة والصحبة. وساحلها أنظف السواحل وأشرحها وأملحها منظرا ، وفيها الحصا الملوّن العجيب الذي يجعله رؤساء مراكش في البراريد ، والرخام الصقيل الملوكي ، وواديها المعروف بوادي بجانة من أفرج الأودية ، ضفّتاه بالرياض كالعذارين حول الثغر ، فحق أن ينشد فيها : [الكامل]
أرض وطئت الدّرّ رضراضا بها |
|
والتّرب مسكا والرياض جنانا (١) |
وفيها كان ابن ميمون القائد الذي قهر النصارى في البحر ، وقطع سفرهم فيه ، وضرب على بلاد الرمانية ، فقتل وسبى ، وملأ صدور أهلها رعبا ، حتى كان منه كما قال أشجع (٢) : [الكامل]
فإذا تنبّه رعته وإذا غفا |
|
سلّت عليه سيوفك الأحلام |
وبها كان محطّ مراكب النصارى ، ومجتمع ديوانهم ، ومنها كانت تسفّر لسائر البلاد بضائعهم ، ومنها كانوا يوسقون جميع البضائع التي تصلح لهم ، وقصد بضبط ذلك بها حصر ما يجتمع في أعشارهم ، ولم يوجد لهذا الشأن مثلها ، لكونها (٣) متوسطة ومتسعة قائمة بالوارد والصادر ، وهي أيضا مصنع للحلل الموشية النفيسة.
وأما مرسية فإنها حاضرة شرق الأندلس ، ولأهلها من الصّرامة والإباء ما هو معروف مشهور ، وواديها قسيم وادي إشبيلية ، كلاهما ينبع من شقورة وعليه من البساتين المتهدبة الأغصان ، والنواعير المطربة الألحان ، والأطيار المغرّدة ، والأزهار المتنضدة ، ما قد سمعت ، وهي من أكثر البلاد فواكه وريحانا ، وأهلها أكثر الناس راحات وفرجا لكون خارجها معينا على ذلك بحسن منظره ، وهي بلدة تجهز منها العروس التي تنتخب شورتها لا تفتقر في شيء من ذلك إلى سواها. وهي للمرية ومالقة في صنعة الوشي ثالثة ، وقد اختصّت بالبسط التنتلية التي
__________________
(١) الرضراض : الحصى الرقاق في مجاري الماء.
(٢) هو أشجع السلمي.
(٣) كذا في أ، ب ، ج. وفي ه «لكونها موسطة».