الأندلس عراق المغرب عزّة أنساب ، ورقّة آداب ، واشتغالا بفنون العلوم (١) ، وافتنانا في المنثور والمنظوم ، لم تضق لهم في ذلك ساحة ، ولا قصرت عنه راحة ، فما مرّ فيها بمصر إلّا وفيه نجوم وبدور وشموس ، وهم أشعر الناس فيما كثره الله تعالى في بلادهم ، وجعله نصب أعينهم من الأشجار والأنهار والطيور والكؤوس ، لا ينازعهم أحد في هذا الشأن ، وابن خفاجة سابقهم في هذا المضمار الحائز فيه قصب الرهان. وأمّا إذا هبّ نسيم ، ودار كأس في كف ظبي رخيم ، ورجّع بمّ وزير ، وصفّق للماء خرير ، أو رقّت العشيّة ، وخلعت السحب أبرادها (٢) الفضية والذهبية ، أو تبسّم عن شعاع ثغر نهر ، أو ترقرق بطلّ جفن زهر ، أو خفق بارق ، أو وصل طيف طارق ، أو وعد حبيب فزار من الظلماء تحت جناح ، وبات مع من يهواه كالماء والراح ، إلى أن ودّع حين أقبل رائد الصباح ، أو أزهرت دوحة السماء بزهر كواكبها ، أو قوّضت عند فيض نهر الصباح بيض مضاربها ، فأولئك هم السابقون السابقون ، الذين لا يجارون ولا يلحقون ، وليسوا بالمقصّرين في الوصف إذا تقعقعت السلاح ، وسالت خلجان الصّوارم بين قضبان الرماح ، وبنت الحرب من العجاج سماء ، وأطلعت شبه النجوم أسنّة وأجرت شبه الشّفق دماء ، وبالجملة فإنهم في جميع الأوصاف والتخيّلات أئمة ، ومن وقف على أشعارهم في هذا الشأن فضّلهم فيه على أصناف الأمّة ، وقد أعانتهم على الشعر أنسابهم العربية ، وبقاعهم النّضرة وهممهم الأبيّة. ولشطار الأندلس من النوادر والتنكيتات ، والتركيبات وأنواع المضحكات ، ما تملأ الدواوين كثرته ، وتضحك الثكلى وتسلّي المسلوب قصته ، ممّا لو سمعه الجاحظ لم يعظم عنده ما حكي وما ركّب ، ولا استغرب أحد ما أورده ولا تعجّب ، إلّا أنّ مؤلّفي هذا الأفق طمحت هممهم عن التصنيف في هذا الشأن فكاد يمرّ ضياعا ، فقمت محتسبا بالظرف (٣) فتداركته جامعا فيه ما أمسى شعاعا (٤) ، انتهى. وقد رأيت أن أذكر رسالة أبي محمد بن حزم الحافظ التي ذكر فيها بعض فضائل علماء الأندلس ؛ لاشتمالها على ما نحن بصدده. وذلك أنه كتب أبو علي الحسن بن محمد بن أحمد بن الرّبيب التميمي القيرواني (٥) ، إلى أبي المغيرة عبد الوهاب بن أحمد بن عبد الرحمن بن حزم يذكر تقصير أهل الأندلس في تخليد أخبار علمائهم ومآثر فضائلهم وسير ملوكهم ، ما صورته :
__________________
(١) كذا في أ، ب ، وفي ه : «بفنون العلم».
(٢) البرد : ثوب مخطط يلتحف به. وجمعه : برود وأبراد وأبرد.
(٣) في ب ، ه : «فقمت محتسبا للظرف».
(٤) شعاعا ، بفتح الشين : متفرقا.
(٥) انظر المسالك للعمري ج ١١ ص ٣١٩.