وجلتها في زاهر ملبسها وباهر حليّها وأرداف الرّبا قد تأزّرت بالأزر الخضر من نباتها ، وأجياد الجداول قد نظم النّوّار قلائده حول لبّاتها ، ومجامر الزهر تعطر أردية النسائم عند هبّاتها ، وهناك من البهار ما يزري على مداهن النّضار ، ومن النرجس الريان ما يهزأ بنواعس الأجفان ، وقد نووا الانفراد للهو والطرب ، والتنزّه في روضي النبات والأدب ، وبعثوا صاحبا لهم يسمى خليفة هو قوام لذّتهم ، ونظام مسرّتهم ، ليأتيهم بنبيذ يذهبون الهمّ بذهبه في لجين زجاجه ، ويرمونه منه بما يقضي بتحريكه للهرب عن القلوب وإزعاجه ، وجلسوا لانتظاره ، وترقّب عوده على آثاره ، فلمّا بصروا به مقبلا من أوّل الفجّ بادروا إلى لقائه ، وسارعوا إلى نحوه وتلقائه ، واتّفق أنّ فارسا من الجند ركض فرسه فصدمه ووطئ عليه فهشم أعظمه وأجرى دمه ، وكسر قمعل (١) النبيذ الذي كان معه ، وفرق من شملهم ما كان الدهر قد جمعه ، ومضى على غلوائه راكضا حتى خفي عن العين ، خائفا من متعلّق به يحين بتعلّقه الحين ، وحين وصل الوزراء إليه ، تأسّفوا عليه ، وأفاضوا في ذكر الزمان وعدوائه (٢) ، والخطب وألوانه (٣) ، ودخوله بطوامّ المضرّات ، على تمام المسرّات ، وتكديره لأوقات المنعمات ، بالآفات المؤلمات ، فقال ابن زيدون : [الوافر]
أتلهو والحتوف بنا مطيفه |
|
ونأمن والمنون لنا مخيفه (٤) |
فقال ابن خلدون : [الوافر]
وفي يوم وما أدراك يوم |
|
مضى قمعالنا ومضى خليفه |
فقال ابن عمار : [الوافر]
هما فخّارتا راح وروح |
|
تكسّرتا فأشقاف وجيفه (٥) |
وذكر ابن بسام ما معناه أن أبا عامر بن شهيد حضر ليلة عند الحاجب أبي عامر بن المظفر بن المنصور بن أبي عامر بقرطبة ، فقامت تسقيهم وصيفة عجيبة صغيرة الخلق ، ولم تزل تسهر في خدمتهم إلى أن همّ جند الليل بالانهزام ، وأخذ في تقويض خيام الظلام ، وكانت تسمى أسيماء ، فعجب الحاضرون من مكابدتها السهر طول ليلتها على صغر سنها ، فسأله المظفر وصفها ، فصنع ارتجالا : [مخلع البسيط]
__________________
(١) القمعل ـ بزنة قنفذ ـ القدح الضخم ، ومثله القمعول كعصفور ، ووقع في ج «قمعال النبيذ».
(٢) في ب : «وعدوانه».
(٣) في أ : «والخطب وإلوائه».
(٤) في ب : «أنلهو ..».
(٥) الشّقف : الخزف أو مكسّره.