فقال له الفرّاء : وما معنى الابتداء؟ فقال الجرمى : تعريته من العوامل اللفظية ، قال له الفراء : فأظهره ، فقال : هذا معنى لا يظهر ، يريد أنه عامل معنوى ، قال له الفراء : فمثّله ، قال الجرمى : لا يتمثّل ، قال الفراء : ما رأيت كاليوم عاملا لا يظهر ولا يتمثّل. فقال الجرمى : أخبرنى عن قولهم : زيد ضربته بم رفعتم زيدا؟ قال الفراء : بالهاء العائدة على زيد (لأن الخبر عنده إذا لم يكن اسما رفع المبتدأ الضمير المتصل بالفعل). فقال الجرمى : الهاء اسم فكيف يرفع الاسم؟ فقال الفراء : نحن لا نبالى من هذا فإنا نجعل كل واحد من المبتدأ والخبر عاملا فى صاحبه فى نحو زيد منطلق. فقال له الجرمى : يجوز أن يكون كذلك فى زيد منطلق ، لأن كل واحد من الاسمين مرفوع فى نفسه ، فجاز أن يرفع الآخر ، وأما الهاء فى ضربته فهى فى محل نصب فكيف ترفع الاسم؟(يريد أن فاقد الشىء لا يعطيه لغيره). فقال الفراء : لم نرفعه به وإنما رفعناه بالعائد (أى الضمير بصفته عائدا عليه لا بصفته منصوبا). فقال له الجرمى : وما العائد؟ فقال الفراء : معنى ، فقال الجرمى : أظهره ، فقال لا يظهر ، فقال له مثّله ، فقال : لا يتمثل. فقال له الجرمى : لقد وقعت فيما فررت منه». وبذلك أسكته.
والجرمى يريد أن الفراء انتهى بعامل المبتدأ فى مثل زيد ضربته إلى أنه عامل معنوى ، وغاية ما هنالك أنه تارة يجعله لفظيّا فى مثل زيد منطلق وتارة يجعله معنويّا كما فى المثال الآنف ، وبذلك يلتقى برأى سيبويه القائل بأن العامل معنوى دائما ، ومن هنا أفحم الفراء وألزمه الحجة.
وتدور فى الكتب النحوية طائفة من آراء الجرمى تدل على دقة فكره وغوصه على المعانى ، من ذلك أنه كان يذهب إلى أن إعراب المثنى والجمع المذكر ليس لفظيّا وإنما هو معنوى ببقاء الألف فى المثنى والواو فى الجمع رفعا وانقلابهما إلى الياء نصبا وجرّا ، وبذلك أنكر الإعراب الظاهر عند سيبويه والمقدر عند الأخفش على نحو ما مر بنا فى غير هذا الموضع (١). وذهب المذهب نفسه فى
__________________
(١) الإنصاف ص ١٣ وأسرار العربية ص ٥٢ والزجاجى ص ١٤١ والهمع ١ / ٤٨.