وكان المبرد يعنى بالسماع عناية شديدة ، ومضى فى إثر أستاذه المازنى لا يرتضى بعض القراءات الشاذة ، ما دامت لا تطرد مع قواعده النحوية. وتشدّد مثل سالفيه فى قبول الرواية عن العرب ، وكان يطعن فى رواية بعض الأشعار المأثورة ما دامت لا تستقيم مع مقاييسه ، حتى لو وردت عند سيبويه ، فقد استشهد على تسكين المضارع فى الضرورة الشعرية بقول امرئ القيس (١) :
فاليوم أشرب غير مستحقب |
|
إثما من الله ولا واغل |
وقال المبرد : ليست هذه هى الرواية الصحيحة للبيت إنما روايته الصحيحة فى مطلعه هى : «فاليوم فاشرب» وإذن يكون سكون الفعل طبيعيّا لأنه فعل أمر ، ويقول ابن جنى معنفا له : «اعتراض أبى العباس فى هذا الموضع إنما هو رد للرواية وتحكم على السماع بالشهوة مجردة من النصفة ، ونفسه ظلم لا من جعله خصمه» (٢). وروى سيبويه والأخفش عن العرب قولهم : لولاك ولولاه ، كما أسلفنا ، ورفض المبرد روايتهما وما جاء عن بعض الشعراء من مثل : «لولاك هذا العام لم أحجج» ، محتجّا بمثل قوله تعالى : (لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ) أى أنه كان يحتم أن يليها الضمير مرفوعا (٣).
وكان يحاول دائما أن يسند آراءه بالعلل ، فلا بد لكل رأى من علة تبرّره ، وكان يتسع فى ذلك سعة جعلته يعمّمه فيما لا حاجة للنطق به ، من ذلك تعليله لمجىء الإعراب فى آخر الكلم دون أوائلها وأواسطها ، يقول : «لم يجعل الإعراب أولا ، لأن الأول تلزمه الحركة ضرورة للابتداء ، لأنه لا يبتدأ إلا بمتحرك ، ولا يوقف إلا على ساكن فلما كانت الحركة تلزمه لم تدخل عليه حركة الإعراب ، لأن الحركتين لا تجتمعان فى حرف واحد. ولما فات وقوعه أولا لم يمكن أن يجعل وسطا ، لأن أوساط الأسماء مختلفة لأنها تكون ثلاثية ورباعية وخماسية وسباعية ، فأوساطها مختلفة ، فلما فات ذلك جعل آخرا بعد كمال الاسم ببنائه وحركاته» (٤). وكان يعلل تسكين الفعل فى مثل ضربن
__________________
(١) الكتاب ٢ / ٢٩٧.
(٢) الخصائص ١ / ٧٢ والخزانة ٢ / ٢٧٩ ، ٣ / ٥٣٠.
(٣) الإنصاف ص ٢٨٥ والمغنى ص ٣٠٣ وانظر تقريرات السيرافى على طبعة بولاق من كتاب سيبويه ١ / ٣٨٨.
(٤) الزجاجى ص ٧٦.