فهى إذا ابتدأ بها المتكلم فى العبارة لزمها الرفع إلا إذا تقدمتها إن وأخواتها ، وإذا تلت فعلا كانت إما مرفوعة وإما منصوبة. ولا يبعد أن يكونوا قد وضعوا لذلك «مصطلحات المبتدأ والفاعل والمفعول» ، ولا يبعد أيضا أن يكونوا لاحظوا اختلافا فى كلمات اللغة وأن منها ما يقبل الحركات الثلاث : الضمة والكسرة والفتحة ، وهو الأسماء المعربة ، وأن منها ما يلزم حركة واحدة وقد يلزم السكون ، وسموا الأولى معربة والثانية مبنية. كل ذلك من الممكن وقوعه ، ولكن ليس بين أيدينا ما يثبته إثباتا قاطعا سوى ما تمدنا به طبائع الأشياء ، فالأصل فى كل علم أن تبدأ فيه نظرات متناثرة هنا وهناك ، ثم يتاح له من يصوغ هذه النظرات صياغة علمية تقوم على اتخاذ القواعد وما يطوى فيها من أقيسة وعلل. وأول نحوىّ بصرى حقيقى نجد عنده طلائع ذلك هو ابن أبى إسحق الحضرمى المتوفى سنة ١١٧ للهجرة ، وهو ليس من تلاميذ أبى الأسود ، ولكنه من القرّاء ، ومن الملاحظ أن جميع نحاة البصرة الذين خلفوه يسلكون فى القراء ، فتلميذاه عيسى بن عمر وأبو عمرو بن العلاء وتلميذا عيسى : الخليل بن أحمد ويونس بن حبيب كل هؤلاء من القرّاء. ويكثر سيبويه فى كتابه من التعرض للقراءات ، وكأن ما كان بينها من خلافات فى الإعراب هو الذى أضرم الرغبة فى نفوس قرّاء البصرة كى يضعوا النحو وقواعده وأصوله ، حتى يتبين القارئ مواقع الكلم فى آى الذكر الحكيم من الإعراب المضبوط الدقيق.
ومعروف أنه لكى يصاغ علم صياغة دقيقة لا بد له من اطراد قواعده وأن تقوم على الاستقراء الدقيق ، وأن يكفل لها التعليل وأن تصبح كل قاعدة أصلا مضبوطا تقاس عليه الجزئيات قياسا دقيقا. وكل ذلك نهض به ابن أبى إسحق وتلاميذه البصريون ، أما من حيث الاطراد فى القواعد فقد تشددوا فيه تشددا جعلهم يطرحون الشاذ ولا يعوّلون عليه فى قليل أو كثير ، وكلما اصطدموا به خطّأوه أو أوّلوه. وأما من حيث الاستقراء فقد اشترطوا صحة المادة التى يشتقون منها قواعدهم ، ومن أجل ذلك رحلوا إلى أعماق نجد وبوادى الحجاز وتهامة يجمعون تلك المادة من ينابيعها الصافية التى لم تفسدها الحضارة ، وبعبارة أخرى رحلوا إلى القبائل المتبدية المحتفظة بملكة اللغة وسليقتها الصحيحة ، وهى قبائل تميم وقيس وأسد