والوجه الآخر معناه : ما تأتيني أبدا إلا لم تحدثني ، أي منك إتيان كثير ولا حديث منك ؛ فالإتيان المنفي هو الإتيان الذي معه الحديث ؛ فهذان الوجهان المقصودان في النصب هما منعا عطف (تحدثني) على (تأتيني) في الرفع لأنه إذا قال : لا تأتيني فتحدثني بالرفع ، فليس أحدهما شرطا في الآخر ؛ ويكون أحد وجهي الرفع أن تعطف (تحدثني) على (تأتيني) ، وتكون (لا) مشتملة عليهما جميعا في النفي ، فكأنه قال : لا تأتيني ولا تحدثني ؛ فهذا عطف فعل على فعل ، والنفي قد شملهما.
والوجه الآخر أن يكون الإتيان منفيا والحديث موجبا ، ويكون عطف جملة على جملة ، كأنه قال : لا تأتيني ثم أنت تحدثني الآن ، وليس تعلق أحدهما بالآخر ، ولا هو شرط فيه ؛ فلما لم يكن عطفه على ظاهر لفظه لئلا يبطل المعنى المقصود ، ردوه في التقدير إلى ما لا يبطل معناه فجعلوا الأول في تقدير مصدر وإن لم يكن لفظه لفظ المصدر الظاهر ؛ وجعلوا الثاني مقدرا بمصدر ليس بظاهر ؛ فلذلك قدرت (إن) فعملت ولم تظهر ، وكان التغيير والتقدير والعدول عن الظاهر دلالة على المعنى المقصود ؛ ولو أظهرت (أن) لكان المصدر قد ظهر ، ولم يظهر في المعطوف عليه. وجعل التغيير لهما كالمشاكلة بينهما ، واكتفى بذلك.
يقوي هذا ما ذكره سيبويه من تقدير ما لا يتكلم به من قولك :
أنا في القوم ليس زيدا ، والتقدير : ليس بعضهم زيدا ، ولا يتكلم بهذا ؛ وقوله : ولا نائب على تقدير : ليسوا بمصلحين ، لم يتكلم بذلك. ويقويه أيضا قولهم في الأسماء : إياك والأسد ، ولا يظهر الفعل الذي ينصب (إياك والأسد) ؛ وهذا التقدير في إضمار (أن) في جميع ما ينصب بجواب (الفاء) واحد ، وإن كانت المعاني مختلفة ، واختلافها أن جواب النفي على وجهين مختلفين ، والنصب فيهما بإضمار (أن) ، وتقدير مصدر للأول يعطف عليه مصدر للثاني.
وجواب الاستفهام والأمر والنهي والتمني على غير المعنى في وجهي النصب في جواب الجحد ، لأن قولك : لا تأتيني فأحدثك على معنى : ما تأتيني فكيف تحدثني ، أو على معنى : ما لم تأتيني إلا لم تحدثني ؛ وهذان المعنيان ليسا في جواب الاستفهام إذا قلت : هل عندك طعام فآكله ، ولا في الجواب الأمر إذا قلت : ائتني فأكرمك ؛ واتفاق العامل في ذلك مع اختلاف المعاني كقولك : يعلم الله ، ويذهب زيد ، لأن قولنا : (يعلم الله) ليس بفعل لله لأن الله ـ عزوجل ـ لم يزل عالما ، (يذهب زيد) فعل له ، فالمعنيان مختلفان ، والرفع بهما واحد.