معط لكل فن ما يليق به من المعاني والألفاظ واللهجة ، فتضمن المحاورة والخطابة والجدل والأمثال (أي الكلم الجوامع) والقصص والتوصيف والرواية.
وكان لفصاحة ألفاظه وتناسبها في تراكيبه وترتيبه على ابتكار أسلوب الفواصل العجيبة المتماثلة في الأسماع وإن لم تكن متماثلة الحروف في الأسجاع ، كان لذلك سريع العلوق بالحوافظ خفيف الانتقال والسير في القبائل ، مع كون مادته ولحمته هي الحقيقة دون المبالغات الكاذبة والمفاخرات المزعومة ، فكان بذلك له صولة الحق وروعة لسامعيه ، وذلك تأثير روحاني وليس بلفظي ولا معنوي.
وقد رأيت المحسنات في البديع جاءت في القرآن أكثر مما جاءت في شعر العرب ، وخاصة الجناس كقوله : (وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً).
والطباق كقوله : (كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) [الكهف : ١٠٤] وقد ألف ابن أبي الإصبع كتابا في «بديع القرآن». وصار لمجيئه نثرا أدبا جديدا غضا ومتناولا لكل الطبقات. وكان لبلاغته وتناسقه نافذ الوصول إلى القلوب حتى وصفوه بالسّحر وبالشّعر : (أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) [الطور : ٣٠].
مبتكرات القرآن
هذا وللقرآن مبتكرات تميز بها نظمه عن بقية كلام العرب.
فمنها أنه جاء على أسلوب يخالف الشعر لا محالة ، وقد نبه عليه العلماء المتقدمون ، وأنا أضم إلى ذلك أن أسلوبه يخالف أسلوب الخطابة بعض المخالفة ، بل جاء بطريقة كتاب يقصد حفظه وتلاوته ، وذلك من وجوه إعجازه إذ كان نظمه على طريقة مبتكرة ليس فيها اتباع لطرائقها القديمة في الكلام.
وأعدّ من ذلك أنه جاء بالجمل الدالة على معان مفيدة محررة ، شأن الجمل العلمية والقواعد التشريعية ، فلم يأت بعمومات شأنها التخصيص غير مخصوصة ، ولا بمطلقات تستحق التقييد غير مقيدة ، كما كان يفعله العرب لقلة اكتراثهم بالأحوال القليلة والأفراد النادرة ، مثاله قوله تعالى : (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ) [النساء : ٩٥] وقوله : (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ) [القصص : ٥٠] فبين أن الهوى قد يكون محمودا إذا كان هوى المرء عن هدى ، وقوله : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا) [العصر : ٢ ، ٣].