نُورٍ) [النور : ٣٩] وقوله : (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ) [الرعد : ١٤].
لم يلتزم القرآن أسلوبا واحدا ، واختلفت سوره وتفننت ، فتكاد تكون لكل سورة لهجة خاصة ، فإن بعضها بني على فواصل وبعضها ليس كذلك. وكذلك فواتحها منها ما افتتح بالاحتفال كالحمد ، و (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) [البقرة : ١٠٤] ، و (الم ذلِكَ الْكِتابُ) [البقرة : ١ ، ٢] ، وهي قريب مما نعبر عنه في صناعة الإنشاء بالمقدّمات. ومنها ما افتتح بالهجوم على الغرض من أول الأمر نحو : (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) [محمد : ١] و (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) [التوبة : ١].
ومن أبدع الأساليب في كلام العرب الإيجاز وهو متنافسهم وغاية تتبارى إليها فصحاؤهم ، وقد جاء القرآن بأبدعه إذ كان ـ مع ما فيه من الإيجاز المبيّن في علم المعاني ـ فيه إيجاز عظيم آخر وهو صلوحية معظم آياته لأن تؤخذ منها معان متعددة كلها تصلح لها العبارة باحتمالات لا ينافيها اللفظ ، فبعض تلك الاحتمالات مما يمكن اجتماعه ، وبعضها إن كان فرض واحد منه يمنع من فرض آخر فتحريك الأذهان إليه وإخطاره بها يكفي في حصول المقصد من التذكير به للامتثال أو الانتهاء. وقد أشرنا إلى هذا في المقدمة التاسعة. ولو لا إيجاز القرآن لكان ما يتضمنه من المعاني في أضعاف مقدار القرآن ، وأسرار التنزيل ورموزه في كل باب بالغة من اللطف والخفاء حدّا يدق عن تفطن العالم ويزيد عن تبصره ، (وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) [فاطر : ١٤].
إنك تجد في كثير من تراكيب القرآن حذفا ولكنك لا تعثر على حذف يخلو الكلام من دليل عليه من لفظ أو سياق ، زيادة على جمعه المعاني الكثيرة في الكلام القليل ، قال في «الكشاف» في سورة المدثر : «الحذف والاختصار هو نهج التنزيل» قال بعض بطارقة الروم لعمر بن الخطاب لما سمع قوله تعالى : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ). [النور : ٥٢] «قد جمع الله في هذه الآية ما أنزل على عيسى من أحوال الدنيا والآخرة» ومن ذلك قوله تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ) [القصص : ٧] الآية ، جمع بين أمرين ونهيين وبشارتين ، ومن ذلك قوله : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) [البقرة : ١٧٩] مقابلا أوجز كلام عرف عندهم وهو «القتل أنفى للقتل» ومن ذلك قوله تعالى : (وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي) [هود : ٤٤] ولقد بسط السكاكي في «المفتاح» آخر قسم البيان نموذجا مما اشتملت عليه هذه الآية من البلاغة والفصاحة ،