وتصدى أبو بكر الباقلاني في كتابه المسمى «إعجاز القرآن» إلى بيان ما في سورة النمل من الخصائص فارجع إليهما.
وأعد من أنواع إيجازه إيجاز الحذف مع عدم الالتباس ، وكثر ذلك في حذف القول ، ومن أبدع الحذف قوله تعالى : (فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ) [المدثر : ٤٠ ـ ٤٣] أي يتذاكرون شأن المجرمين فيقول من علموا شأنهم سألناهم فقلنا ما سلككم في سقر. قال في «الكشاف» قوله : (ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ) ليس ببيان للتساؤل عنهم وإنما هو حكاية قول المسئولين ، أي إن المسئولين يقولون للسائلين قلنا لهم ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين ا ه.
ومنه حذف المضاف كثيرا كقوله تعالى : (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ). [البقرة : ١٧٧] وحذف الجمل التي يدل الكلام على تقديرها نحو قوله تعالى : (فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ) [الشعراء : ٦٣] إذ التقدير فضرب فانفلق. ومن ذلك الإخبار عن أمر خاص بخبر يعمه وغيره لتحصل فوائد : فائدة الحكم العام ، وفائدة الحكم الخاص ، وفائدة أن هذا المحكوم عليه بالحكم الخاص هو من جنس ذلك المحكوم عليه بالحكم العام.
وقد تتبعت أساليب من أساليب نظم الكلام في القرآن فوجدتها مما لا عهد بمثلها في كلام العرب ، مثال ذلك قوله تعالى : (قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ مُبَيِّناتٍ) [الطلاق : ١٠] فإبدال (رسولا) من (ذكرا) يفيد أن هذا الذكر ذكر هذا الرسول ، وأن مجيء الرسول هو ذكر لهم ، وأن وصفه بقوله (يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ) يفيد أن الآيات ذكر. ونظير هذا قوله : (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً) [البينة : ١ ، ٢] الآية وليس المقام بسامح لإيراد عديد الأمثلة من هذا ، ولعله يأتي في أثناء التفسير.
ومن بديع الإيجاز في القرآن وأكثره ما يسمى بالتضمين ، وهو يرجع إلى إيجاز الحذف ، والتضمين أن يضمّن الفعل أو الوصف معنى فعل أو وصف آخر ويشار إلى المعنى المضمن بذكر ما هو من متعلقاته من حرف أو معمول فيحصل في الجملة معنيان.
ومن هذا الباب ما اشتمل عليه من الجمل الجارية مجرى الأمثال ، وهذا باب من أبواب البلاغة نادر في كلام بلغاء العرب ، وهو الذي لأجله عدت قصيدة زهير في «المعلقات» فجاء في القرآن ما يفوق ذلك كقوله تعالى : (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ)