قال ابن عرفة عند قوله تعالى : (تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ) في سورة آل عمران [٢٧] : «كان بعضهم يقول إن القرآن يشتمل على ألفاظ يفهمها العوام وألفاظ يفهمها الخواص وعلى ما يفهمه الفريقان ومنه هذه الآية فإن الإيلاج يشمل الأيام التي لا يدركها إلا الخواص والفصول التي يدركها سائر العوام» أقول : وكذلك قوله تعالى : (أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما) [الأنبياء : ٣٠].
فمن طرق إعجازه العلمية أنه دعا للنظر والاستدلال ، قال في «الشفاء» : «ومنها جمعه لعلوم ومعارف لم تعهد للعرب ، ولا يحيط بها أحد من علماء الأمم ، ولا يشتمل عليها كتاب من كتبهم فجمع فيه من بيان علم الشرائع ، والتنبيه على طرق الحجة العقلية ، والرد على فرق الأمم ببراهين قوية وأدلة كقوله : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) [الأنبياء : ٢٢] وقوله : (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) [يس : ٨١].
ولقد فتح الأعين إلى فضائل العلوم بأن شبه العلم بالنور وبالحياة كقوله : (لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا) [يس : ٧٠] وقوله : (يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) [البقرة : ٢٥٧] وقال : (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) [العنكبوت : ٤٣] وقال : (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) [الزمر : ٩].
وهذا النوع من الإعجاز هو الذي خالف به القرآن أساليب الشعر وأغراضه مخالفة واضحة. هذا والشاطبي قال في «الموافقات» : «إن القرآن لا تحمل معانيه ولا يتأوّل إلّا على ما هو متعارف عند العرب» ولعل هذا الكلام صدر منه في التفصي من مشكلات في مطاعن الملحدين اقتصادا في البحث وإبقاء على نفيس الوقت ، وإلا فكيف ينفي إعجاز القرآن لأهل كل العصور ، وكيف يقصر إدراك إعجازه بعد عصر العرب على الاستدلال بعجز أهل زمانه إذ عجزوا عن معارضته ، وإذ نحن نسلم لهم التفوق في البلاغة والفصاحة ، فهذا إعجاز إقناعي بعجز أهل عصر واحد ولا يفيد أهل كل عصر إدراك طائفة منهم لإعجاز القرآن. وقد بيّنت نقض كلام الشاطبي في أواخر المقدمة الرابعة.
وقد بدت لي حجة لتعلق هذه الجهة الثالثة بالإعجاز ودوامه وعمومه وهي قوله صلىاللهعليهوسلم في الحديث الصحيح : «ما من الأنبياء نبيء إلا أوتي ـ أو أعطي ـ من الآيات ما مثله آمن عليه البشر وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحاه الله إليّ وإني أرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة» ففيه نكتتان غفل عنهما شارحوه : الأولى أن قوله : «ما مثله آمن عليه البشر»