المقدمة الثانية
في استمداد علم التفسير
استمداد العلم يراد به توقفه على معلومات سابق وجودها على وجود ذلك العلم عند مدوّنيه لتكون عونا لهم على إتقان تدوين ذلك العلم ، وسمى ذلك في الاصطلاح بالاستمداد عن تشبيه احتياج العلم لتلك المعلومات بطلب المدد ، والمدد العون والغواث ، فقرنوا الفعل بحرفي الطلب وهما السين والتاء ، وليس كل ما يذكر في العلم معدودا من مدده ، بل مدده ما يتوقف عليه تقومه ، فأما ما يورد في العلم من مسائل علوم أخرى عند الإفاضة في البيان ، مثل كثير من إفاضات فخر الدين الرازي في «مفاتيح الغيب» فلا يعدّ مددا للعلم ، ولا ينحصر ذلك ولا ينضبط ، بل هو متفاوت على حسب مقادير توسع المفسرين ومستطرداتهم ، فاستمداد علم التفسير للمفسر العربي ، والمولّد ، من المجموع الملتئم من علم العربية وعلم الآثار ، ومن أخبار العرب وأصول الفقه قيل : وعلم الكلام وعلم القراءات.
أما العربية فالمراد منها معرفة مقاصد العرب من كلامهم وأدب لغتهم سواء حصلت تلك المعرفة بالسجية والسليقة ، كالمعرفة الحاصلة للعرب الذين نزل القرآن بين ظهرانيهم ، أم حصلت بالتلقي والتعلم كالمعرفة الحاصلة للمولدين الذين شافهوا بقية العرب ومارسوهم ، والمولدين الذين درسوا علوم اللسان ودونوها. إن القرآن كلام عربي فكانت قواعد العربية طريقا لفهم معانيه ، وبدون ذلك يقع الغلط وسوء الفهم لمن ليس بعربي بالسليقة ، ويعني بقواعد العربية مجموع علوم اللسان العربي ، وهي : متن اللغة ، والتصريف ، والنحو ، والمعاني ، والبيان. ومن وراء ذلك استعمال العرب المتّبع من أساليبهم في خطبهم وأشعارهم وتراكيب بلغائهم ، ويدخل في ذلك ما يجري مجرى التمثيل والاستئناس للتفسير من أفهام أهل اللسان أنفسهم لمعاني آيات غير واضحة الدلالة عند المولدين ، قال في «الكشاف» : «ومن حق مفسر كتاب الله الباهر ، وكلامه المعجز أن يتعاهد في مذاهبه بقاء النظم على حسنه والبلاغة على كمالها ، وما وقع به التحدي سليما من القادح ، فإذا لم يتعاهد أوضاع اللغة فهو من تعاهد النظم والبلاغة