(الكتاب) النازل بالفعل وهي السور المتقدمة على سورة البقرة ؛ لأن كل ما نزل من القرآن فهو المعبر عنه بأنه القرآن وينضم إليه ما يلحق به ، فيكون (الكتاب) على هذا الوجه أطلق حقيقة على ما كتب بالفعل ، ويكون قوله (الكتاب) على هذا الوجه خبرا عن اسم الإشارة ، ويجوز أن تكون الإشارة إلى جميع القرآن ما نزل منه وما سينزل لأن نزوله مترقّب فهو حاضر في الأذهان فشبه بالحاضر في العيان ، فالتعريف فيه للعهد التقديري والإشارة إليه للحضور التقديري فيكون قوله (الكتاب) حينئذ بدلا أو بيانا من (ذلِكَ) والخبر هو (لا رَيْبَ فِيهِ).
ويجوز الإتيان في مثل هذا باسم الإشارة الموضوع للقريب والموضوع للبعيد ، قال الرضي (١) «وضع اسم الإشارة للحضور والقرب لأنه للمشار إليه حسّا ثم يصح أن يشار به إلى الغائب فيصح الإتيان بلفظ البعد لأن المحكي عنه غائب ، ويقل أن يذكر بلفظ الحاضر القريب فتقول جاءني رجل فقلت لذلك الرجل وقلت لهذا الرجل ، وكذا يجوز لك في الكلام المسموع عن قريب أن تشير إليه بلفظ الغيبة والبعد كما تقول : «والله وذلك قسم عظيم» لأن اللفظ زال سماعه فصار كالغائب ولكن الأغلب في هذا الإشارة بلفظ الحضور فتقول وهذا قسم عظيم» ا ه ، أي الأكثر في مثله الإتيان باسم إشارة البعيد ويقل ذكره بلفظ الحاضر ، وعكس ذلك في الإشارة للقول.
وابن مالك في «التسهيل» سوّى بين الإتيان بالقريب والبعيد في الإشارة لكلام متقدم إذ قال : وقد يتعاقبان (أي اسم القريب والبعيد) مشارا بهما إلى ما ولياه أي من الكلام ، ومثّله شارحه بقوله تعالى بعد قصة عيسى : (ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ) [آل عمران : ٥٨] ثم قال : (إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُ) [آل عمران : ٦٢] فأشار مرة بالبعيد ومرة بالقريب والمشار إليه واحد ، وكلام ابن مالك أوفق بالاستعمال إذ لا يكاد يحصر ما ورد من الاستعمالين فدعوى الرضي قلة أن يذكر بلفظ الحاضر دعوى عريضة. وإذا كان كذلك كان حكم الإشارة إلى غائب غير كلام مثل الإشارة إلى الكلام في جواز الوجهين لكثرة كليهما أيضا ، ففي القرآن : (فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ) [القصص : ١٥] فإذا كان الوجهان سواء كان ذلك الاستعمال مجالا لتسابق البلغاء ومراعاة مقتضيات الأحوال ، ونحن قد رأيناهم يتخيرون في مواقع الإتيان باسم الإشارة ما هو أشد
__________________
(١) «شرح كافية ابن الحاجب» صفحة ٣٢ جزء ٢ طبع الآستانة.