حرف النون ، وفي الإتيان بمن التي هي للتبعيض إيماء إلى كون الإنفاق المطلوب شرعا هو إنفاق بعض المال لأن الشريعة لم تكلف الناس حرجا ، وهذا البعض يقل ويتوفر بحسب أحوال المنفقين. فالواجب منه ما قدرت الشريعة نصبه ومقاديره من الزكاة وإنفاق الأزواج والأبناء والعبيد ، وما زاد على الواجب لا ينضبط تحديده وما زاد فهو خير ، ولم يشرع الإسلام وجوب تسليم المسلم ما ارتزقه واكتسبه إلى يد غيره. وإنما اختير ذكر هذه الصفات لهم دون غيرها لأنها أول ما شرع من الإسلام فكانت شعار المسلمين وهي الإيمان الكامل وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة فإنهما أقدم المشروعات وهما أختان في كثير من آيات القرآن ، ولأن هذه الصفات هي دلائل إخلاص الإيمان لأن الإيمان في حال الغيبة عن المؤمنين وحال خويصّة النفس أدل على اليقين والإخلاص حين ينتفي الخوف والطمع إن كان المراد ما غاب. أو لأن الإيمان بما لا يصل إليه الحس أدل دليل على قوة اليقين حتى إنه يتبقى من الشارع ما لا قبل للرأي فيه وشأن النفوس أن تنبو عن الإيمان به لأنها تميل إلى المحسوس فالإيمان به على علاته دليل قوة اليقين بالمخبر وهو الرسول إن كان المراد من الغيب ما قابل الشهادة ، ولأن الصلاة كلفة بدنية في أوقات لا يتذكرها مقيمها أي محسن أدائها إلا الذي امتلأ قلبه بذكر الله تعالى على ما فيها من الخضوع وإظهار العبودية ، ولأن الزكاة أداء المال وقد علم شح النفوس قال تعالى : (وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً) [المعارج : ٢١] ولأن المؤمنين بعد الشرك كانوا محرومين منها في حال الشرك بخلاف أهل الكتاب فكان لذكرها تذكير بنعمة الإسلام.
[٤] (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤))
عطف على (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) [البقرة : ٣] طائفة ثانية على الطائفة الأولى المعنية بقوله : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) وهما معا قسمان للمتقين ، فإنه بعد أن أخبر أن القرآن هدى للمتقين الذين آمنوا بعد الشرك وهم العرب من أهل مكة وغيرهم ووصفهم بالذين يؤمنون بالغيب لأنهم لم يكونوا يؤمنون به حين كانوا مشركين ، ذكر فريقا آخر من المتقين وهم الذين آمنوا بما أنزل من الكتب الإلهية قبل بعثة محمد صلىاللهعليهوسلم ثم آمنوا بمحمد ، وهؤلاء هم مؤمنو أهل الكتاب وهم يومئذ اليهود الذين كانوا كثيرين في المدينة وما حولها في قريظة والنضير وخيبر مثل عبد الله بن سلام ، وبعض النصارى مثل صهيب الرومي ودحية الكلبي ، وهم وإن شاركوا مسلمي العرب في الاهتداء بالقرآن والإيمان بالغيب وإقامة