المقدمة الثالثة
في صحة التفسير بغير المأثور ومعنى التفسير بالرأي ونحوه
إن قلت أتراك بما عددت من علوم التفسير تثبت أن تفسيرا كثيرا للقرآن لم يستند إلى مأثور عن النبي صلىاللهعليهوسلم ولا عن أصحابه ، وتبيح لمن استجمع من تلك العلوم حظا كافيا وذوقا ينفتح له بهما من معاني القرآن ما ينفتح عليه ، أن يفسر من آي القرآن بما لم يؤثر عن هؤلاء ، فيفسر بمعان تقتضيها العلوم التي يستمد منها علم التفسير ، وكيف حال التحذير الواقع في الحديث الذي رواه الترمذي عن ابن عباس أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار» ، وفي رواية : «من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار». والحديث الذي رواه أبو داود والترمذي والنسائي أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «من تكلم في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ» وكيف محمل ما روى من تحاشي بعض السلف عن التفسير بغير توقيف؟ فقد روى عن أبي بكر الصديق أنه سأل عن تفسير الأبّ في قوله : (وَفاكِهَةً وَأَبًّا) [عبس : ٣١] فقال : «أيّ أرض تقلّني ، وأيّ سماء تظلني إذا قلت في القرآن برأيي» ويروى عن سعيد بن المسيّب والشعبي إحجامهما عن ذلك.
قلت : أراني كما حسبت أثبت ذلك وأبيحه ، وهل اتسعت التفاسير وتفننت مستنبطات معاني القرآن إلا بما رزقه الذين أوتوا العلم من فهم في كتاب الله؟ وهل يتحقق قول علمائنا «إن القرآن لا تنقضي عجائبه» إلا بازدياد المعاني باتساع التفسير؟ ولو لا ذلك لكان تفسير القرآن مختصرا في ورقات قليلة. وقد قالت عائشة : «ما كان رسول الله يفسر من كتاب الله إلا آيات معدودات علمه جبريل إياهن» كما تقدم في المقدمة الثانية.
ثم لو كان التفسير مقصورا على بيان معاني مفردات القرآن من جهة العربية لكان التفسير نزرا ، ونحن نشاهد كثرة أقوال السلف من الصحابة ، فمن يليهم في تفسير آيات القرآن وما أكثر ذلك الاستنباط برأيهم وعلمهم. قال الغزالي والقرطبي : لا يصح أن يكون كل ما قاله الصحابة في التفسير مسموعا من النبي صلىاللهعليهوسلم لوجهين : أحدهما أن النبي صلىاللهعليهوسلم لم يثبت عنه من التفسير إلا تفسير آيات قليلة وهي ما تقدم عن عائشة. الثاني أنهم اختلفوا