ومتّقياته ، وكلّت أذهانهم من ابتكار الحيل واختلاق الخطل. وحذف مفعول (آمِنُوا) استغناء عنه بالتشبيه في قوله : (كَما آمَنَ النَّاسُ) أو لأنه معلوم للسامعين. وقوله : (كَما آمَنَ النَّاسُ) الكاف فيه للتشبيه أو للتعليل ، واللام في (الناس) للجنس أو للاستغراق العرفي. والمراد بالناس من عدا المخاطبين ، كلمة تقولها العرب في الإغراء بالفعل والحث عليه لأن شأن النفوس أن تسرع إلى التقليد والاقتداء بمن يسبقها في الأمر ، فلذلك يأتون بهاته الكلمة في مقام الإغراء أو التسلية أو الائتساء ، قال عمرو ابن البرّاقة النّهمي (١) :
وننصر مولانا ونعلم أنّه |
|
كما الناس مجزوم عليه وجارم |
وقوله : (أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ) استفهام للإنكار ، قصدوا منه التبري من الإيمان على أبلغ وجه ، وجعلوا الإيمان المتبرأ منه شبيها بإيمان السفهاء تشنيعا له وتعريضا بالمسلمين بأنهم حملهم على الإيمان سفاهة عقولهم ، ودلوا على أنهم علموا مراد من يقول لهم (كَما آمَنَ النَّاسُ) أنه يعني بالناس المسلمين.
والسفهاء جمع سفيه وهو المتصف بالسفاهة ، والسفاهة خفة العقل وقلة ضبطه للأمور قال السموأل :
نخاف أن تسفه أحلامنا |
|
فنخمل الدهر مع الخامل |
والعرب تطلق السفاهة على أفن الرأي وضعفه ، وتطلقها على سوء التدبير للمال. قال تعالى : (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ) [النساء : ٥] وقال : (فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً) [البقرة : ٢٨٢] الآية لأن ذلك إنما يجىء من ضعف الرأي. ووصفهم المؤمنين بالسفاهة بهتان لزعمهم أن مخالفتهم لا تكون إلا لخفة في عقولهم ، وليس ذلك لتحقيرهم ، كيف وفي المسلمين سادة العرب من المهاجرين والأنصار. وهذه شنشنة أهل الفساد والسفه أن يرموا المصلحين بالمذمات بهتانا ووقاحة ليلهوهم عن تتبع مفاسدهم ولذلك قال أبو الطيب :
وإذا أتتك مذمّتي من ناقص |
|
فهي الشهادة لي بأني كامل |
وليس في هاته الآية دليل على حكم الزنديق إذا ظهر عليه وعرفت زندقته إثباتا ، ولا نفيا لأن القائلين لهم (آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ) هم من أقاربهم أو خاصتهم من المؤمنين
__________________
(١) بنون مكسورة وسكون الهاء نسبة إلى نهم : بطن من همدان.