من مجموع ما تقدم من شرح حالهم ابتداء من قوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ) [البقرة : ٨] إلخ ومما يتضمنه المثلان من الإشارة إلى وجوه المشابهة بين أجزاء أحوالهم وأجزاء الحالة المشبه بها ، فإن إظهارهم الإيمان بقولهم : (آمَنَّا بِاللهِ) وقولهم : (إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ) [البقرة : ١١] وقولهم عند لقاء المؤمنين : (آمَنَّا) [البقرة : ١٤] أحوال ومظاهر حسنة تلوح على المنافقين حينما يحضرون مجلس النبي صلىاللهعليهوسلم وحينما يتظاهرون بالإسلام والصلاة والصدقة مع المسلمين ويصدر منهم طيّب القول وقويم السلوك وتشرق عليهم الأنوار النبوية فيكاد نور الإيمان يخترق إلى نفوسهم ولكن سرعان ما يعقب تلك الحالة الطيبة حالة تضادها عند انفضاضهم عن تلك المجالس الزكية وخلوصهم إلى بطانتهم من كبرائهم أو من أتباعهم فتعاودهم الأحوال الذميمة من مزاولة الكفر وخداع المؤمنين والحقد عليهم والاستهزاء بهم ووصفهم بالسفه ، مثّل ذلك التظاهر وذلك الانقلاب بحال الذي استوقد نارا ثم ذهب عنه نورها.
ومن بدائع هذا التمثيل أنه مع ما فيه من تركيب الهيئة المشبه بها ومقابلتها للهيئة المركبة من حالهم هو قابل لتحليله بتشبيهات مفردة لكل جزء من هيئة أحوالهم بجزء مفرد من الهيئة المشبه بها فشبه استماعهم القرآن باستيقاد النار ، ويتضمن تشبيه القرآن في إرشاد الناس إلى الخير والحق بالنار في إضاءة المسالك للسالكين ، وشبه رجوعهم إلى كفرهم بذهاب نور النار ، وشبه كفرهم بالظلمات ، ويشبهون بقوم انقطع إبصارهم.
[١٨] (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (١٨))
أخبار لمبتدإ محذوف هو ضمير يعود إلى ما عاد إليه ضمير (مَثَلُهُمْ) [البقرة : ١٧] ولا يصح أن يكون عائدا على (الَّذِي اسْتَوْقَدَ) [البقرة : ١٧] لأنه لا يلتئم به أول التشبيه وآخره لأن قوله : (كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) يقتضي أن المستوقد ذو بصر وإلا لما تأتى منه الاستيقاد ، وحذف المسند إليه في هذا المقام استعمال شائع عند العرب إذا ذكروا موصوفا بأوصاف أو أخبار جعلوه كأنه قد عرف للسامع فيقولون : فلان أو فتى أو رجل أو نحو ذلك على تقدير هو فلان ، ومنه قوله تعالى : (جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا) [النبأ : ٣٦ ، ٣٧] التقدير هو رب السماوات عدل عن جعل (رب) بدلا من ربك ، وقول الحماسي (١) :
__________________
(١) من «الحماسة» في باب الأضياف غير منسوب ، ونسبه الشريف المرتضى في «أماليه» لإبراهيم بن العباس الصولي. وقيل لعبد الله بن الزبير. وقيل لمحمد بن سعيد الكاتب ، وعمرو المذكور هو عمرو بن سعد بن العاص الملقب بالأشدق.