المقدمة الرابعة
فيما يحق أن يكون غرض المفسر
كأني بكم وقد مر على أسماعكم ووعت ألبابكم ما قررته من استمداد علم التفسير ، ومن صحة تفسير القرآن بغير المأثور ، ومن الإنحاء على من يفسر القرآن بما يدعيه باطنا ينافي مقصود القرآن ، ومن التفرقة بين ذلك وبين الإشارات ، تتطلعون بعد إلى الإفصاح عن غاية المفسر من التفسير ، وعن معرفة المقاصد التي نزل القرآن لبيانها حتى تستبين لكم غاية المفسرين من التفسير على اختلاف طرائقهم ، وحتى تعلموا عند مطالعة التفاسير مقادير اتصال ما تشتمل عليه ، بالغاية التي يرمي إليها المفسر فتزنوا بذلك مقدار ما أوفى به من المقصد ، ومقدار ما تجاوزه ، ثم ينعطف القول إلى التفرقة بين من يفسر القرآن بما يخرج عن الأغراض المرادة منه ، وبين من يفصل معانيه تفصيلا ، ثم ينعطف القول إلى نموذج مما استخرجه العلماء من مستنبطات القرآن في كثير من العلوم.
إن القرآن أنزله الله تعالى كتابا لصلاح أمر الناس كافة رحمة لهم لتبليغهم مراد الله منهم قال الله تعالى : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) [النحل : ٨٩] فكان المقصد الأعلى منه صلاح الأحوال الفردية ، والجماعية ، والعمرانية ، فالصلاح الفردي يعتمد تهذيب النفس وتزكيتها ، ورأس الأمر فيه صلاح الاعتقاد لأن الاعتقاد مصدر الآداب والتفكير ، ثم صلاح السريرة الخاصة ، وهي العبادات الظاهرة كالصلاة ، والباطنة كالتخلق بترك الحسد والحقد والكبر. وأما الصلاح الجماعي فيحصل أولا من الصلاح الفردي إذ الأفراد أجزاء المجتمع ، ولا يصلح الكل إلا بصلاح أجزائه ، ومن شيء زائد على ذلك وهو ضبط تصرف الناس بعضهم مع بعض على وجه يعصمهم من مزاحمة الشهوات ومواثبة القوى النفسانية ، وهذا هو علم المعاملات ، ويعبر عنه عند الحكماء بالسياسة المدنية. وأما الصلاح العمراني فهو أوسع من ذلك إذا هو حفظ نظام العالم الإسلامي ، وضبط تصرف الجماعات والأقاليم بعضهم مع بعض على وجه يحفظ مصالح الجميع ، ورعي المصالح الكلية الإسلامية ، وحفظ المصلحة الجامعة عند معارضة المصلحة القاصرة لها ، ويسمى هذا بعلم العمران وعلم الاجتماع.