(أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ) [النمل : ٢٧] وقوله الذي ذكرناه آنفا (أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ) وهو دليل كنائي واستعمال بلاغي جرى عليه نظم الآية وإن لم يكن يومئذ جمع من الكافرين بل كان إبليس وحيدا في الكفر. وهذا منزع انتزعه من تتبع موارد مثل هذا التركيب في هاتين الخصوصيتين خصوصية زيادة (كان) وخصوصية إثبات الوصف لموصوف بعنوان أنه واحد من جماعة موصوفين به وسيجيء ذلك قريبا عن قوله تعالى : (وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) [البقرة : ٤٣]. وإذ لم يكن في زمن امتناع إبليس من السجود جمع من الكافرين كان قوله : (وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) جاريا على المتعارف في أمثال هذا الإخبار الكنائي.
وفي هذا العدول عن مقتضى الظاهر مراعاة لما تقتضيه حروف الفاصلة أيضا ، وقد رتبت الأخبار الثلاثة في الذكر على حسب ترتيب مفهوماتها في الوجود وذلك هو الأصل في الإنشاء أن يكون ترتيب الكلام مطابقا لترتيب مدلولات جمله كقوله تعالى : (وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ) [هود : ٧٧] وقد أشرت إلى ذلك في كتابي «أصول الإنشاء الخطابة».
[٣٥] (وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (٣٥))
عطف على (قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا) [البقرة : ٣٤] أي بعد أن انقضى ذلك قلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة. وهذه تكرمة أكرم الله بها آدم بعد أن أكرمه بكرامة الإجلال من تلقاء الملائكة.
ونداء آدم قبل تخويله سكنى الجنة نداء تنويه بذكر اسمه بين الملإ الأعلى ، لأن نداءه يسترعي إسماع أهل الملإ الأعلى فيتطلعون لما سيخاطب به ، وينتزع من هذه الآية أن العالم جدير بالإكرام بالعيش الهنيء ، كما أخذ من التي قبلها أنه جدير بالتعظيم.
والأمر بقوله : (اسْكُنْ) مستعمل في الامتنان بالتمكين والتخويل وليس أمرا له بأن يسعى بنفسه لسكنى الجنة إذ لا قدرة له على ذلك السعي فلا يكلف به.
وضمير (أنت) واقع لأجل عطف (وَزَوْجُكَ) على الضمير المستتر في (اسْكُنْ) وهو استعمال العربية عند عطف اسم ، على ضمير متصل مرفوع المحل لا يكادون يتركونه ، يقصدون بذلك زيادة إيضاح المعطوف فتحصل فائدة تقرير مدلول المعطوف لئلا يكون تابعه