الشجرة كان مخالفة لأمر الله تعالى ورفضا له وسوء الظن بالفائدة منه دعا لمخالفته الطمع والحرص على جلب نفع لأنفسهما ، وهو الخلود في الجنة والاستئثار بخيراتها مع سوء الظن بالذي نهاهما عن الأكل منها وإعلامه لهما بأنهما إن أكلا منها ظلما أنفسهما لقول إبليس لهما : (ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ) [الأعراف : ٢٠] فكذلك كانت عداوة أفراد البشر مع ما جبلوا عليه من الألفة والأنس والاتحاد منشؤها رفض تلك الألفة والاتحاد لأجل جلب النفع للنفس وإهمال منفعة الغير ، فلا جرم كان بين ذلك الخاطر الذي بعثهما على الأكل من الشجرة وبين أثره الذي بقي في نفوسهما والذي سيورثونه نسلهما فيخلق النسل مركبة عقولهم على التخلق بذلك الخلق الذي طرأ على عقل أبويهما ، ولا شك أن ذلك الخلق الراجع لإيثار النفس بالخير وسوء الظن بالغير هو منبع العداوات كلها لأن الواحد لا يعادي الآخر إلا لاعتقاد مزاحمة في منفعة أو لسوء ظن به في مضرة. وفي هذا إشارة إلى مسألة أخلاقية وهي أن أصل الأخلاق حسنها وقبيحها هو الخواطر الخيرة والشريرة ثم ينقلب الخاطر إذا ترتب عليه فعل فيصير خلقا وإذا قاومه صاحبه ولم يفعل صارت تلك المقاومة سببا في اضمحلال ذلك الخاطر ، ولذلك حذرت الشريعة من الهم بالمعاصي وكان جزاء ترك فعل ما يهم به منها حسنة وأمرت بخواطر الخير فكان جزاء مجرد الهمّ بالحسنة حسنة ولو لم يعملها وكان العمل بذلك الهم عشر حسنات كما ورد في الحديث الصحيح : «من همّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة ـ ثم قال ـ ومن همّ بسيئة فعملها كتبت له سيئة واحدة» وجعل العفو عن حديث النفس منّة من الله تعالى ومغفرة في حديث «إن الله تجاوز عن أمتي فيما حدثت به نفوسها».
إن الله تعالى خلق الإنسان خيّرا سالما من الشرور والخواطر الشريرة على صفة ملكية وهو معنى (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) [التين : ٤] ثم جعله أطوارا فأولها طور تعليمه النطق ووضع الأسماء للمسميات لأن ذلك مبدأ المعرفة وبه يكون التعليم أي يعلم بعض أفراده بعضا ما علمه وجهله الآخر فكان إلهامه اللغة مبدأ حركة الفكر الإنساني وهو مبدأ صالح للخير ومعين عليه لأن به علّم الناس بعضهم بعضا ولذلك ترى الصبي يرى الشيء فيسرع إلى قرنائه يناديهم ليروه معه حرصا على إفادتهم فكان الإنسان معلّما بالطبع وكان ذلك معينا على خيريته إلا أنه صالح أيضا لاستعمال النطق في التمويه والكذب ؛ ثم إن الله تعالى لما نهاه عن أمر كلّفه بما في استطاعته أن يمتثله وأن يخالفه فتلك الاستطاعة مبدأ حركة نفسه في الحرص والاستئثار فكان خلق الله تعالى إياه على