في المحاورة والمجادلة يقتنعون به ، وخاطبهم في شأن إثبات صدق الرسول خلال ذلك بالدليل الذي تدركه أذواقهم البلاغية فقال : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) [البقرة : ٢٣] الآيات. ولما قضى ذلك كلّه حقّه أقبل بالخطاب هنا على الصنف الثاني وهم أهل الشرائع والكتاب وخص من بينهم بني إسرائيل لأنهم أمثل أمة ذات كتاب مشهور في العالم كله وهم الأوحداء بهذا الوصف من المتكلمين باللغة العربية الساكنين المدينة وما حولها ، وهم أيضا الذين ظهر منهم العناد والنواء لهذا الدين ، ومن أجل ذلك لم يدع اليهود إلى توحيد ولا اعتراف بالخالق لأنهم موحدون ولكنه دعاهم إلى تذكر نعم الله عليهم وإلى ما كانت تلاقيه أنبياؤهم من مكذبيهم ، ليذكروا أن تلك سنة الله وليرجعوا على أنفسهم بمثل ما كانوا يؤنّبون به من كذب أنبياءهم وذكرهم ببشارات رسلهم وأنبيائهم بنبي يأتي بعدهم.
ولتوجيه الخطاب إليهم طريقة أخرى وهي أنه جادلهم بالأدلة الدينية العلمية وإثبات صدق الرسالة بما تعارفوه من أحوال الرسل ، ولم يعرج لهم على إثبات الصدق بدلالة معجزة القرآن إذ لم يكونوا من فرسان هذا الميدان كما قدمناه في تفسير قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما) [البقرة : ٢٦] فكان خطابهم هنا بالدلائل الدينية وبحجج الشريعة الموسوية ليكون دليل صدق الرسول في الاعتبار بحاله وأنه جاء على وفاق أحوال إخوانه المرسلين السابقين.
وقد أفاض القرآن في ذلك وتدرج فيه من درجة إلى أختها بأسلوب بديع في مجادلة المخاطبين وأفاد فيه تعليم المسلمين حتى لا يفوتهم علماء بني إسرائيل قال تعالى : (أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ) [الشعراء : ١٩٧] فقد كان العلم يومئذ معرفة التشريع ومعرفة أخبار الأنبياء والأمم الماضية وأحوال العالمين العلوي والسفلي مع الوصايات الأدبية والمواعظ الأخلاقية ، فبذلك كان اليهود يفوقون العرب ومن أجله كانت العرب تسترشدهم في الشئون وبه امتاز اليهود على العرب في بلادهم بالفكرة المدنية. وكان علم عامة اليهود في هذا الشأن ضعيفا وإنما انفردت بعلمه علماؤهم وأحبارهم فجاء القرآن في هاته المجادلات معلما أيضا للمسلمين وملحقا لهم بعلماء بني إسرائيل حتى تكون الدرجة العليا لهم لأنهم يضمون هذا العلم إلى علومهم اللسانية ونباهتهم الفكرية فتصبح عامة المسلمين مساوية في العلم لخاصة الإسرائيليين وهذا معنى عظيم من معاني تعميم التعليم والإلحاق في مسابقة التمدين. وبه تنكشف لكم حكمة من حكم تعرض