المقدمة السادسة
في القراءات
لو لا عناية كثير من المفسرين بذكر اختلاف القراءات في ألفاظ القرآن حتى في كيفيات الأداء ، لكنت بمعزل عن التكلم في ذلك ، لأن علم القراءات علم جليل مستقل قد خص بالتدوين والتأليف ، وقد أشبع فيه أصحابه وأسهبوا بما ليس عليه مزيد ، ولكني رأيتني بمحل الاضطرار إلى أن ألقي عليكم جملا في هذا الغرض تعرفون بها مقدار تعلق اختلاف القراءات بالتفسير ، ومراتب القراءات قوة وضعفا ، كيلا تعجبوا من إعراضي عن ذكر كثير من القراءات في أثناء التفسير.
أرى أن للقراءات حالتين إحداهما لا تعلق لها بالتفسير بحال ، والثانية لها تعلق به من جهات متفاوتة.
أما الحالة الأولى : فهي اختلاف القراء في وجوه النطق بالحروف والحركات كمقادير المد والإمالات والتخفيف والتسهيل والتحقيق والجهر والهمس والغنة ، مثل (عَذابِي) [الأعراف : ١٥٦] بسكون الياء و (عَذابِي) بفتحها ، وفي تعدد وجوه الإعراب مثل : (حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ) [البقرة : ٢١٤] بفتح لام يقول وضمها. ونحو : (لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ) [البقرة : ٢٥٤] برفع الأسماء الثلاثة أو فتحها أو رفع بعض وفتح بعض ، ومزية القراءات من هذه الجهة عائدة إلى أنها حفظت على أبناء العربية ما لم يحفظه غيرها وهو تحديد كيفيات نطق العرب بالحروف في مخارجها وصفاتها وبيان اختلاف العرب في لهجات النطق بتلقّي ذلك عن قراء القرآن من الصحابة بالأسانيد الصحيحة ، وهذا غرض مهم جدا لكنه لا علاقة له بالتفسير لعدم تأثيره في اختلاف معاني الآي ، ولم أر من عرف لفن القراءات حقه من هذه الجهة ، وفيها أيضا سعة من بيان وجوه الإعراب في العربية ، فهي لذلك مادة كبرى لعلوم اللغة العربية. فأئمة العربية لما قرءوا القرآن قرءوه بلهجات العرب الذين كانوا بين ظهرانيهم في الأمصار التي وزعت عليها المصاحف : المدينة ، ومكة ، والكوفة ، والبصرة ، والشام ، قيل واليمن والبحرين ، وكان في هذه الأمصار