كما كلمتني فجسه إسحاق وقال الصوت صوت يعقوب ولكن اليدين يدا عيسو فباركه (أي جعله نبيئا) وجاء عيسو وكلم أباه وعلم الحيلة ثم قال لأبيه : باركني أنا فقال قد جاء أخوك بكرة وأخذ بركتك» إلخ فما ظنك بقوم هذه مبالغ عقائدهم أن لا يقولوا لا تعلموهم لئلا يحاجوكم عند الله يوم القيامة وبهذا يندفع استبعاد البيضاوي وغيره أن يكون المراد بعند ربكم يوم القيامة بأن إخفاء الحقائق يوم القيامة لا يفيد من يحاوله حتى سلكوا في تأويل معنى قوله (عِنْدَ رَبِّكُمْ) مسالك في غاية التكلف قياسا منهم لحال اليهود على حال عقائد الإسلام ففسروا (عند) بمعنى الكتاب أو على حذف مضاف أو حذف موصول ثم سلك متعقبوهم في إعرابه غاية الإغراب.
وقوله : (أَفَلا تَعْقِلُونَ) من بقية مقولهم لقومهم ولا يصح جعله خطابا من الله للمسلمين تذييلا لقوله : (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ) [البقرة : ٧٥] لأن المسلمين وفيهم الرسول صلىاللهعليهوسلم ليسوا جديرين بمثل هذا التوبيخ وحسبهم ما تضمنه الاستفهام من الاستغراب أو النهي.
فإن قلت : لم لم يذكر في الآية جواب المخاطبين بالتبرؤ من أن يكونوا حدثوا المؤمنين بما فتح الله عليهم كما ذكر في قوله المتقدم : (وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ)؟
قلت : ليس القرآن بصدد حكاية مجادلاتهم وأحوالهم فإنها أقل من ذلك وإنما يحكي منها ما فيه شناعة حالهم وسوء سلوكهم ودوام إصرارهم وانحطاط أخلاقهم فتبريهم مما نسب إليه كبراؤهم من التهمة معلوم ، للقطع بأنهم لم يحدثوا المسلمين بشيء ولما دل عليه قوله الآتي (أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ) إلخ. وأما ما في الآية المتقدمة من تنصلهم بقولهم (إِنَّا مَعَكُمْ) فلأن فيه التسجيل عليهم في قولهم فيه : (إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ).
وقوله : (أَوَلا يَعْلَمُونَ) الآية ، الاستفهام فيه على غير حقيقته فهو إما مجاز في التقرير أي ليسوا يعلمون ذلك والمراد التقرير بلازمه وهو أنه إن كان الله يعلمه فقد علمه رسوله وهذا لزوم عرفي ادعائي في المقام الخطابي أو مجاز في التوبيخ والمعنى هو هو ، أو مجاز في التحضيض أي هل كان وجود أسرار دينهم في القرآن موجبا لعلمهم أن الله يعلم ما يسرون والمراد لازم ذلك أي يعلمون أنه منزل عن الله أي هلا كان ذلك دليلا على صدق الرسول عوض عن أن يكون موجبا لتهمة قومهم الذين تحققوا صدقهم في اليهودية ، وهذا الوجه هو الظاهر لي ويرجحه التعبير بيعلمون بالمضارع دون علموا.