(وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً) [البقرة : ٤١] ومقدمة للإنحاء عليهم في مقابلتهم للدعوة المحمدية الآتي ذكرها في قوله تعالى : (وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ) [البقرة : ٨٨].
فقوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) تمهيد للمعطوف وهو قوله : (وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ) الذي هو المبني عليه التعجب في قوله : (أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ) فقوله : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) تمهيد التمهيد وإلا فهو قد علم من الآيات السابقة فلا مقتضى للإعلام به استقلالا هنا ولكنه ذكر ليبنى عليه ما بعده فكأنه تحصيل لما تقدم أي ولقد كان ما كان مما تقدم وهو إيتاء موسى الكتاب وقفينا أيضا بعده بالرسل فهو كالعلاوة أو كقول القائل هذا وقد كان كذا.
و (قفى) مضاعف قفا تقول قفوت فلانا إذا جئت في إثره لأنك حينئذ كأنك تقصد جهة قفاه فهو من الأفعال المشتقة من الجوامد مثل جبهه ، فصار المضاعف قفاه بفلان تقفية وذلك أنك جعلته مأمورا بأن يقفو بجعل منك لا من تلقاء نفسه أي جعلته يقفوه غيره ولكون المفعول واحدا جعلوا المفعول الثاني عند التضعيف متعلقا بالفعل بباء التعدية لئلا يلتبس التابع بالمتبوع فقالوا : قفّى زيدا بعمرو عوض أن يقولوا : قفى زيدا عمرا.
فمعنى (قَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ) أرسلنا رسلا وقد حذف مفعول (قَفَّيْنا) للعلم به وهو ضمير موسى. وقوله : (مِنْ بَعْدِهِ) أي من بعد ذهابه أي موته ، وفيه إيماء إلى التسجيل على اليهود بأن مجيء الرسل بعد موسى ليس ببدع.
والجمع في الرسل للعدد والتعريف للجنس وهو مراد به التكثير قاله صاحب «الكشاف» أي لأن شأن لفظ الجنس المعرف إذا لم يكن عهد أن يدل على الاستغراق فلما كان الاستغراق هنا متعذرا دل على التكثير مجازا لمشابهة الكثير بجميع أفراد الجنس كقولك لم يبق أحد في البلد لم يشهد الهلال إذا شهده جماعات كثيرة وهو قريب من معنى الاستغراق العرفي (١).
وسمي أنبياء بني إسرائيل الذين من بعد موسى رسلا مع أنهم لم يأتوا بشرع جديد اعتبارا بأن الله لما أمرهم بإقامة التوراة وتفسيرها والتفريع منها فقد جعل لهم تصرفا شرعيا
__________________
(١) لأن الاستغراق العرفي منظور فيه إلى استغراق جميع الأفراد في مكان أو زمان تنزيلا لهم منزلة الكل. وهذا جعل بمعنى الكثرة لا غير.