أفاد عموم الرسول وشمل هذا موسى عليهالسلام فإنهم وإن لم يكذبوه بصريح اللفظ لكنهم عاملوه معاملة المكذبين به إذ شكوا غير مرة فيما يخبرهم عن الله تعالى وأساءوا الظن به مرارا في أوامره الاجتهادية وحملوه على قصد التغرير بهم والسعي لإهلاكهم كما قالوا حين بلغوا البحر الأحمر وحين أمرهم بالحضور لسماع كلام الله تعالى ، وحين أمرهم بدخول أريحا ، وغير ذلك ، وأما بقية الرسل فكذبوهم بصريح القول مثل عيسى وقتلوا بعض الرسل مثل أشعياء وزكرياء ويحيى ابنه وأرمياء.
وجاء في (تَقْتُلُونَ) بالمضارع عوضا عن الماضي لاستحضار الحالة الفظيعة وهي حالة قتلهم رسلهم كقوله : (اللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ) [الروم : ٤٨] مع ما في صيغة (تَقْتُلُونَ) من مراعاة الفواصل فاكتمل بذلك بلاغة المعنى وحسن النظم.
[٨٨] (وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ (٨٨))
إما عطف على قوله : (اسْتَكْبَرْتُمْ) [البقرة : ٨٧] أو على (كَذَّبْتُمْ) [البقرة : ٨٧] فيكون على الوجه الثاني تفسيرا للاستكبار أي يكون على تقدير عطفه على (كَذَّبْتُمْ) من جملة تفصيل الاستكبار بأن أشير إلى أن استكبارهم أنواع : تكذيب وتقتيل وإعراض. وعلى الوجهين ففيه التفات من الخطاب إلى الغيبة وإبعاد لهم عن مقام الحضور فهو من الالتفات الذي نكتته أن ما أجري على المخاطب من صفات النقص والفظاعة قد أوجب إبعاده عن البال وإعراض البال عنه فيشار إلى هذا الإبعاد بخطابه بخطاب البعد فهو كناية (١).
وقد حسّن الالتفات أنه مؤذن بانتقال الكلام إلى سوء مقابلتهم للدعوة المحمدية وهو غرض جديد فإنهم لما تحدث عنهم بما هو من شئونهم مع أنبيائهم وجه الخطاب إليهم ، ولما أريد الحديث عنهم في إعراضهم عن النبي صلىاللهعليهوسلم صار الخطاب جاريا مع المؤمنين وأجرى على اليهود ضمير الغيبة. على أنه يحتمل أن قولهم (قُلُوبُنا غُلْفٌ) لم يصرحوا به علنا ويدل لذلك أن أسلوب الخطاب جرى على الغيبة من مبدأ هذه الآية إلى قوله تعالى :
__________________
(١) قلت نظير هذا الالتفات من الخطاب إلى الغيبة بعد إجراء صفات نقص قول الشاعر يذم من بخل في قضاء مهم :
أبى لك كسب الحمد رأي مقصر |
|
ونفس أضاق الله بالخير باعها |
إذا هي حثته على الخير مرّة |
|
عصاها وإن همّت بشرّ أطاعها |