عن النظر فيما اشتملت عليه كتبهم من الوعد بمجيء رسول بعد موسى ، إرضاء لداعية الحسد وهم يحسبون أنهم مع ذلك قد استبقوا أنفسهم على الحق إذ كفروا بالقرآن ، فهذا إيقاظ لهم نحو معرفة داعيهم إلى الكفر وإشهار لما ينطوي عليه عند المسلمين.
و (بِئْسَمَا) مركّب من (بئس) و (ما) الزائدة. وفي بئس وضدّها نعم خلاف في كونهما فعلين أو اسمين والأصح أنهما فعلان. وفي (ما) المتصلة بهما مذاهب أحدها أنها معرفة تامة أي تفسر باسم معرف بلام التعريف وغير محتاجة إلى صلة احترازا عن (ما) الموصولة فقوله : (بِئْسَمَا) يفسر ببئس الشيء قاله سيبويه والكسائي. والآخر أنها موصولة قاله الفراء والفارسي وهذان هما أوضح الوجوه فإذا وقعت بعدها (ما) وحدها كانت (ما) معرفة تامة نحو قوله تعالى : (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ) [البقرة : ٢٧١] أي نعم الشيء هي وإن وقعت بعد ما جملة تصلح لأن تكون صلة كانت (ما) معرفة ناقصة أي موصولة نحو قوله هنا : (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ) و (ما) فاعل (بئس).
وقد يذكر بعد بئس ونعم اسم يفيد تعيين المقصود بالذم أو المدح ، ويسمى في علم العربية المخصوص وقد لا يذكر لظهوره من المقام أو لتقدم ما يدل عليه فقوله : (أَنْ يَكْفُرُوا) هو المخصوص بالذم والتقدير كفرهم بآيات الله ، ولك أن تجعله مبتدأ محذوف الخبر أو خبرا محذوف المبتدأ أو بدلا أو بيانا من (ما) وعليه فقوله تعالى : (اشْتَرَوْا) إما صفة للمعرفة أو صلة للموصولة و (أَنْ يَكْفُرُوا) هو المخصوص بالذم خبر مبتدأ محذوف وذلك على وزان قولك نعم الرجل فلان.
والاشتراء الابتياع وقد تقدم في قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) [البقرة : ١٦] فقوله تعالى هنا : (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ) مجاز أطلق فيه الاشتراء على استبقاء الشيء المرغوب فيه تشبيها لاستبقائه بابتياع شيء مرغوب فيه فهم قد آثروا أنفسهم في الدنيا فأبقوا عليها بأن كفروا بالقرآن حسدا ، فإن كانوا يعتقدون أنهم محقون في إعراضهم عن دعوة محمد صلىاللهعليهوسلم لتمسكهم بالتوراة وأن قوله فيما تقدم (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا) [البقرة : ٨٩] بمعنى جاءهم ما عرفوا صفته وإن فرطوا في تطبيقها على الموصوف ، فمعنى اشتراء أنفسهم جار على اعتقادهم لأنهم نجوها من العذاب في اعتقادهم فقوله : (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ) أي بئسما هو في الواقع وأما كونه اشتراء فبحسب اعتقادهم وقوله : (أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ) هو أيضا بحسب الواقع ، وفيه تنبيه لهم على حقيقة حالهم وهي أنهم كفروا برسول مرسل إليهم للدوام على شريعة نسخت. وإن كانوا معتقدين