والقول في قوله : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) كالقول في (أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) وهو تصريح بحكم مفهوم (أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) وفيه اكتفاء عن التصريح بحكم المنطوق وهو أن المؤمنين به هم الرابحون ففي الآية إيجاز بديع لدلالتها على أن الذين أوتوا الكتاب يتلونه حق تلاوته هم المؤمنون دون غيرهم فهم كافرون فالمؤمنون به هم الفائزون والكافرون هم الخاسرون.
[١٢٢ ، ١٢٣] (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٢٢) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (١٢٣))
أعيد نداء بني إسرائيل نداء التنبيه والإنذار والتذكير على طريقة التكرير في الغرض الذي سيق الكلام الماضي لأجله ، فإنه ابتدأ نداءهم أولا بمثل هاته الموعظة في ابتداء التذكير بأحوالهم الكثيرة خيرها وشرها عقب قوله : (وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ) [البقرة : ٤٦] فذكر مثل هاته الجملة هناك كذكر المطلوب في صناعة المنطق قبل إقامة البرهان وذكرها هنا كذكر النتيجة في المنطق عقب البرهان تأييدا لما تقدم وفذلكة له وهو من ضروب رد العجز على الصدر.
وقد أعيدت هذه الآية بالألفاظ التي ذكرت بها هنا لك للتنبيه على نكتة التكرير للتذكير ولم يخالف بين الآيتين إلا من الترتيب بين العدل والشفاعة فهنالك قدم (وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ) [البقرة : ٤٨] وأخر (وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ) [البقرة : ٤٨] وهنا قدم (وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ) وأخر لفظ الشفاعة مسندا إليه (تَنْفَعُها) وهو تفنن والتفنن في الكلام تنتفي به سآمة الإعادة مع حصول المقصود من التكرير. وقد حصل مع التفنن نكتة لطيفة إذ جاءت الشفاعة في الآية السابقة مسندا إليها المقبولية فقدمت على العدل بسبب نفي قبولها ونفي قبول الشفاعة لا يقتضي نفي أخذ الفداء فعطف نفي أخذ الفداء للاحتراس ، وأما في هذه الآية فقدم الفداء لأنه أسند إليه المقبولية ونفي قبول الفداء لا يقتضي نفي نفع الشفاعة فعطف نفي نفع الشفاعة على نفي قبول الفداء للاحتراس أيضا.
والحاصل أن الذي نفي عنه أن يكون مقبولا قد جعل في الآيتين أولا وذكر الآخر بعده. وأما نفي القبول مرة عن الشفاعة ومرة عن العدل فلأن أحوال الأقوام في طلب الفكاك عن الجناة تختلف ، فمرة يقدمون الفداء فإذا لم يقبل قدموا الشفعاء ، ومرة يقدمون