القرآن بأمر النبي صلىاللهعليهوسلم ، وذلك بتوفيق إلهي. ولعل حكمة الأمر بالكتابة أن يرجع إليها المسلمون عند ما يحدث لهم شك أو نسيان ولكن ذلك لم يقع.
ولما جمع القرآن في عهد أبي بكر لم يؤثر عنهم أنهم ترددوا في ترتيب آيات من إحدى السور ولا أثر عنهم إنكار أو اختلاف فيما جمع من القرآن فكان موافقا لما حفظته حوافظهم ، قال ابن وهب : سمعت مالكا يقول : إنما ألّف القرآن على ما كانوا يسمعونه من رسول الله صلىاللهعليهوسلم. وقال ابن الأنباري كانت الآية تنزل جوابا لمستخبر يسأل ويوقف جبريل رسول الله صلىاللهعليهوسلم على موضع الآية.
واتساق الحروف واتساق الآيات واتساق السور كله عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم. فلهذا كان الأصل في آي القرآن أن يكون بين الآية ولاحقتها تناسب في الغرض أو في الانتقال منه أو نحو ذلك من أساليب الكلام المنتظم المتصل ، ومما يدل عليه وجود حروف العطف المفيدة الاتصال مثل الفاء ولكن وبل (١) ومثل أدوات الاستثناء ، على أن وجود ذلك لا يعيّن اتصال ما بعده بما قبله في النزول ، فإنه قد اتّفق على أن قوله تعالى : (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) نزل بعد نزول ما قبله وما بعده من قوله : (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ) إلى قوله : (وَأَنْفُسِهِمْ) [النساء : ٩٥] قال بدر الدين الزركشي : «قال بعض مشايخنا المحققين قد وهم من قال لا تطلب للآي الكريمة مناسبة والذي ينبغي في كل آية أن يبحث أول شيء عن كونها مكمّلة لما قبلها أو مستقلة ، ثم المستقلة ما وجه مناسبتها لما قبلها ففي ذلك علم جم».
على أنه يندر أن يكون موقع الآية عقب التي قبلها لأجل نزولها عقب التي قبلها من سورة هي بصدد النزول فيؤمر النبي بأن يقرأها عقب التي قبلها ، وهذا كقوله تعالى : (وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ) [مريم : ٦٤] عقب قوله : (تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا) في سورة مريم [٦٣] ، فقد روي أن جبريل لبث أياما لم ينزل على النبي صلىاللهعليهوسلم بوحي ، فلما نزل بالآيات السابقة عاتبه النبي ، فأمر الله جبريل أن يقول : (وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ) فكانت وحيا نزل به جبريل ، فقرئ مع الآية التي نزل بأثرها ، وكذلك آية : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها) [البقرة : ٢٦] عقب قوله تعالى : (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ) إلى قوله : (وَهُمْ فِيها خالِدُونَ)
__________________
(١) دون الواو لأنها تعطف الجمل والقصص ، وكذلك ثم لأنها قد تعطف الجمل.