المقدمة العاشرة
في إعجاز القرآن
لم أر غرضا تناضلت له سهام الأفهام ، ولا غاية تسابقت إليها جياد الهمم فرجعت دونها حسرى ، واقتنعت بما بلغته من صبابة نزرا ، مثل الخوض في وجوه إعجاز القرآن ، فإنه لم يزل شغل أهل البلاغة الشاغل ، وموردها للمعلول والناهل ، ومغلى سبائها للنديم والواغل ، ولقد سبق أن ألّف علم البلاغة مشتملا على نماذج من وجوه إعجازه ، والتفرقة بين حقيقته ومجازه ،. إلا أنه باحث عن كل خصائص الكلام العربي البليغ ليكون معيارا للنقد أو آلة للصّنع ، ثم ليظهر من جراء ذلك كيف تفوّق القرآن على كل كلام بليغ بما توفر فيه من الخصائص التي لا تجتمع في كلام آخر للبلغاء حتى عجز السابقون واللّاحقون منهم عن الإتيان بمثله.
قال أبو يعقوب السكاكي في كتاب «المفتاح» «واعلم أني مهدت لك في هذا العلم قواعد متى بنيت عليها أعجب كلّ شاهد بناؤها واعترف لك بكمال الحذق في البلاغة أبناؤها ، إلى أن قال : ثم إذا كنت ممن ملك الذّوق وتصفحت كلام رب العزة أطلعتك على ما يوردك موارد العزة وكشفت عن وجه إعجازه القناع» ا ه.
فأما أنا فأردت في هذه المقدمة أن ألمّ بك أيها المتأمل إلمامة ليست كخطرة طيف ولا هي كإقامة المنتجع في المربع حتى يظله الصّيف ، وإنما هي لمحة ترى منها كيف كان القرآن معجزا وتتبصر منها نواحي إعجازه وما أنا بمستقص دلائل الإعجاز في آحاد الآيات والسور ؛ فذلك له مصنفاته وكل صغير وكبير مستطر. ثم ترى منها بلاغة القرآن ولطائف أدبه التي هي فتح لفنون رائعة من أدب لغة العرب حتى ترى كيف كان هذا القرآن فتح بصائر ، وفتح عقول ، وفتح ممالك ، وفتح أدب غض ارتقى به الأدب العربي مرتقى لم يبلغه أدب أمّة من قبل. وكنت أرى الباحثين ممن تقدّمني يخلطون هذين الغرضين خلطا ، وربما أهملوا معظم الفن الثاني ، وربما ألمّوا به إلماما وخلطوه بقسم الإعجاز وهو الذي يحق أن يكون البحث فيه من مقدمات علم التفسير ، ولعلك تجد في هذه المقدمة أصولا