الأمرين منتف ؛ فإن قوله : (وَمَثَلُ الَّذِينَ) ، صريح في أنه تشبيه هيئة بهيئة كما تقدم في قوله تعالى : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ) [البقرة : ١٧] ، وإذا كان كذلك كانت أجزاء المركبين غير منظور إليها استقلالا وأيّها ذكرت في جانب المركب المشبّه والمربة المشبه به أجزأك ، وإنما كان الغالب أن يبدءوا الجملة الدالة على المركب المشبه به بما يقابل المذكور في المركب المشبه نحو : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) وقد لا يلتزمون ذلك ، فقد قال الله تعالى : (مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ) [آل عمران : ١١٧] الآية. والذي يقابل (ما يُنْفِقُونَ) في جانب المشبه به هو قوله : (حَرْثَ قَوْمٍ) [آل عمران : ١٧٧] وقال : (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ) [البقرة : ٢٦١] وإنما الذي يقابل (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ) في جانب المشبه به هو زارع الحبة وهو غير مذكور في اللفظ أصلا وقال تعالى : (كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ) [البقرة : ٢٦٤] الآية ، والذي يقابل الصفوان في جانب المشبه هو المال المنفق لا الذي ينفق ، وفي الحديث الصحيح «مثل المسلمين واليهود والنصارى كمثل رجل استأجر أجراء» إلخ ، والذي يقابل الرجل الذي استأجر في جانب المشبه هو الله تعالى في ثوابه للمسلمين وغيرهم ممن آمن قبلنا ، وهو غير مذكور في جانب المشبه أصلا ، وهو استعمال كثير جدا ، وعليه فالتقديرات الواقعة للمفسرين هنا تقادير لبيان المعنى ، والآية تحتمل أن يكون المراد تشبيه حال المشركين في إعراضهم عن الإسلام بحال الذي ينعق بالغنم ، أو تشبيه حال المشركين في إقبالهم على الأصنام بحال الداعي للغنم ، وأيّا ما كان فالغنم تسمع صوت الدعاء والنداء ولا تفهم ما يتكلم به الناعق ، والمشركون لم يهتدوا بالأدلة التي جاء بها النبي صلىاللهعليهوسلم فيكون قوله : (إِلَّا دُعاءً وَنِداءً) من تكملة أوصاف بعض أجزاء المركب التمثيلي في جانب المشبه به ، وذلك صالح لأن يكون مجرد إتمام للتشبيه إن كان المراد تشبيه المشركين بقلة الإدراك ، ولأن يكون احتراسا في التشبيه إن كان المراد تشبيه الأصنام حين يدعوها المشركون بالغنم حين ينعق بها رعاتها فهي لا تسمع إلّا دعاء ونداء ، ومعلوم أن الأصنام لا تسمع لا دعاء ولا نداء فيكون حينئذ مثل قوله تعالى : (فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) [البقرة : ٧٤] ثم قال : (وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ) [البقرة : ٧٤].
وقد جوز المفسرون أن يكون التمثيل على إحدى الطريقتين ، وعندي أن الجمع بينهما ممكن ولعله من مراد الله تعالى ، فقد قدمنا أن التشبيه التمثيلي يحتمل كل ما حمّلته من الهيئة كلها ، وهيئة المشركين في تلقي الدعوة مشتملة على إعراض عنها وإقبال على