قلت : ولا يضر كون الهيئة المشبه بها غير محسوسة لأنها هيئة متخيلة كقوله : (أعلام ياقوت نشرن على رماح من زبرجد) فالمركب الذي من شأنه أن يدل على الهيئة المشبهة أن يقال : أولئك ما يأخذون إلّا أخذا فظيعا مهلكا فإن تناولها كتناول النار للأكل فإنه كلّه هلاك من وقت تناولها باليد إلى حصولها في البطن ، ووجه كون الرشوة مهلكة أن فيها اضمحلال أمر الأمة وذهاب حرمة العلماء والدين فتكون هذه الاستعارة بمنزلة قوله تعالى : (وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها) [آل عمران : ١٠٣] أي على وشك الهلاك والاضمحلال.
والذي يدعو إلى المصير للتمثيلية هو قوله تعالى : (فِي بُطُونِهِمْ) فإن الرشوة لا تؤكل في البطن فيتعين أن يكون المركب كله استعارة ، ولو جعلت الاستعارة في خصوص لفظ النار لكان قوله : (يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ) مستعملا في المركب الحقيقي ، وهو لا يصح ، ولو لا قوله : (فِي بُطُونِهِمْ) لأمكن أن يقال : إنّ (يَأْكُلُونَ) هنا مستعمل حقيقة عرفية في غصب الحق ونحو ذلك.
وجوزوا أن يكون قوله : (يَأْكُلُونَ) مستقبلا ، أي ما سيأكلون إلّا النار على أنه تهديد ووعيد بعذاب الآخرة ، وهو وجيه ، ونكتة استعارة الأكل هنا إلى اصطلائهم بنار جهنم هي مشاكلة تقديرية لقوله : (يَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً) فإن المراد بالثمن هنا الرشوة ، وقد شاع تسمية أخذ الرشوة أكلا.
وقوله : (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ) نفي للكلام والمراد به لازم معناه وهو الكناية عن الغضب ، فالمراد نفي كلام التكريم ، فلا ينافي قوله تعالى : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) [الحجر : ٩٣].
وقوله : (وَلا يُزَكِّيهِمْ) أي لا يثني عليهم في ذلك المجمع ، وذلك إشعار لهم بأنهم صائرون إلى العذاب ؛ لأنه إذا نفيت التزكية أعقبها الذم والتوبيخ ، فهو كناية عن ذمهم في ذلك الجمع إذ ليس يومئذ سكوت.
(أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (١٧٥))
إن جعلت (أُولئِكَ) مبتدأ ثانيا لجملة هي خبر ثان عن المبتدأ الأول وهو اسم (إِنَ) في قوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ) [البقرة : ١٧٤] فالقول فيه