منهم الوصية قد نسخ وجوبها وصارت مندوبة يقولون : إن آية المواريث نسخت هذه الآية كلها فأصبحت الوصية المشروعة بهذه الآية منسوخة بآية المواريث للإجماع على أن آية المواريث نسخت عموم الوالدين والأقربين الوارثين ، ونسخت الإطلاق الذي في لفظ (الوصية) والتخصيص بعد العمل بالعام ، والتقييد بعد العمل بالمطلق كلاهما نسخ ، وإن كان لفظ آية المواريث لا يدل على ما يناقض آية الوصية ، لاحتمالها أن يكون الميراث بعد إعطاء الوصايا أو عند عدم الوصية بل ظاهرها ذلك لقوله : (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ) [النساء : ١١] ، وإن كان الحديثان الواردان في ذلك آحادا لا يصلحان لنسخ القرآن عند من لا يرون نسخ القرآن بخبر الآحاد ، فقد ثبت حكم جديد للوصية وهو الندب أو الوجوب على الخلاف في غير الوارث وفي الثلث بدليل الإجماع المستند للأحاديث وفعل الصحابة ، ولمّا ثبت حكم جديد للوصية فهو حكم غير مأخوذ من الآية المنسوخة بل هو حكم مستند للإجماع ، هذا تقرير أصل استنباط العلماء في هذه المسألة وفيه ما يدفع عن الناظر إشكالات كثيرة للمفسرين والفقهاء في تقرير كيفية النسخ.
(فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٨١))
الضمائر البارزة في (بدله وسمعه وإثمه ويبدلونه) عائدة إلى القول أو الكلام الذي يقوله الموصي ودل عليه لفظ (الْوَصِيَّةُ) [البقرة : ١٨٠] ، وقد أكد ذلك بما دل عليه قوله (سَمِعَهُ) إذ إنما تسمع الأقوال وقيل هي عائدة إلى الإيصاء المفهوم من قوله : (الْوَصِيَّةُ) أي كما يعود الضمير على المصدر المأخوذ من الفعل نحو قوله تعالى : (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) [المائدة : ٨] ، ولك أن تجعل الضمير عائدا إلى (بِالْمَعْرُوفِ) [البقرة : ١٨٠] ، والمعنى فمن بدل الوصية الواقعة بالمعروف ، لأن الإثم في تبديل المعروف ، بدليل قوله الآتي : (فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) [البقرة : ١٨٢].
والمراد من التبديل هنا الإبطال أو النقص ؛ وما صدق (من بدّله) هو الذي بيده تنفيذ الوصية من خاصة الورثة كالأبناء ومن الشهود عليها بإشهاد من الموصي أو بحضور موطن الوصية كما في الوصية في السفر المذكورة في سورة المائدة : (لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ) [المائدة : ١٠٦] فالتبديل مستعمل في معناه المجازي لأن حقيقة التبديل جعل شيء في مكان شيء آخر والنقض يستلزم الإتيان بضد المنقوض وتقييد التبديل بظرف (بَعْدَ ما سَمِعَهُ) تعليل للوعيد أي لأنه بدل ما سمعه وتحققه وإلّا فإن التبديل لا يتصور إلّا في معلوم مسموع ؛ إذ لا تتوجه النفوس إلى المجهول.