والمراد بالذين من قبلكم من كان قيل المسلمين من أهل الشرائع وهم أهل الكتاب أعني اليهود ؛ لأنهم الذين يعرفهم المخاطبون ويعرفون ظاهر شئونهم وكانوا على اختلاط بهم في المدينة وكان لليهود صوم فرضه الله عليهم وهو صوم اليوم العاشر من الشهر السابع من سنتهم وهو الشهر المسمى عندهم (تسري) يبتدئ الصوم من غروب اليوم التاسع إلى غروب اليوم العاشر وهو يوم كفارة الخطايا ويسمونه (كبّور) ثم إن أحبارهم شرعوا صوم أربعة أيام أخرى وهي الأيام الأول من الأشهر الرابع والخامس والسابع والعاشر من سنتهم تذكارا لوقائع بيت المقدس وصوم يوم (بوريم) تذكارا لنجاتهم من غصب ملك الأعاجم (أحشويروش) في واقعة (استير) ، وعندهم صوم التطوع ، وفي الحديث : «أحب الصيام إلى الله صيام داود كان يصوم يوما ويفطر يوما» ، أما النصارى فليس في شريعتهم نص على تشريع صوم زائد على ما في التوراة فكانوا يتبعون صوم اليهود وفي «صحيح مسلم» عن ابن عباس : «قالوا يا رسول الله إن يوم عاشوراء تعظمه اليهود والنصارى» ، ثم إن رهبانهم شرعوا صوم أربعين يوما اقتداء بالمسيح ؛ إذ صام أربعين يوما قبل بعثته ، ويشرع عندهم نذر الصوم عند التوبة وغيرها ، إلّا أنهم يتوسعون في صفة الصوم ، فهو عندهم ترك الأقوات القوية والمشروبات ، أو هو تناول طعام واحد في اليوم يجوز أن تلحقه أكلة خفيفة.
وقوله : (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) بيان لحكمة الصيام وما لأجله شرع ، فهو في قوة المفعول لأجله لكتب. و (لعل) إما مستعارة لمعنى كي استعارة تبعية ، وإما تمثيلية بتشبيه شأن الله؛في إرادته من تشريع الصوم التقوى بحال المترجي من غيره فعلا ما ، والتقوى الشرعية هي اتقاء المعاصي ، وإنما كان الصيام موجبا لاتقاء المعاصي ، لأن المعاصي قسمان ، قسم ينجع في تركه التفكر كالخمر والميسر والسرقة والغصب فتركه يحصل بالوعد على تركه والوعيد على فعله والموعظة بأحوال الغير ، وقسم ينشأ من دواع طبيعية كالأمور الناشئة عن الغضب وعن الشهوة الطبيعية التي قد يصعب تركها بمجرد التفكر ، فجعل الصيام وسيلة لاتقائها ، لأنه يعدّل القوى الطبيعية التي هي داعية تلك المعاصي ، ليرتقي المسلم به عن حضيض الانغماس في المادة إلى أوج العالم الرّوحاني ، فهو وسيلة للارتياض بالصفات الملكية والانتفاض من غبار الكدرات الحيوانية. وفي الحديث الصحيح «الصّوم جنّة» أي وقاية ولما ترك ذكر متعلّق جنّة تعيّن حمله على ما يصلح له من أصناف الوقاية المرغوبة ، ففي الصوم وقاية من الوقوع في المآثم ووقاية من الوقوع في عذاب الآخرة ، ووقاية من العلل والأدواء الناشئة عن الإفراط في تناول اللذات.