والجعل هنا جعل التشريع بدليل أن مفعوله من شئون التعبد لا من شئون الخلق وهو لفظ القبلة ، ولذلك ففعل جعل هنا متعد إلى مفعول واحد لأنه بمعنى شرعنا ، فهذه الآيات نزلت بعد الأمر بالتوجه إلى الكعبة فيكون المراد بيت المقدس ، وعدل عن تعريف المسند باسمه إلى الموصول لمحاكاة كلام المردود عليهم حين قالوا (ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها) [البقرة : ١٤٢] مع الإيماء إلى تعليل الحكمة المشار إليها بقوله تعالى : (إِلَّا لِنَعْلَمَ) أي ما جعلنا تلك قبلة مع إرادة نسخها فألزمناكها زمنا إلّا لنعلم إلخ.
والاستثناء في قوله : (إِلَّا لِنَعْلَمَ) استثناء من علل وأحوال أي ما جعلنا ذلك لسبب وفي حال إلّا لنظهر من كان صادق الإيمان في الحالتين حالة تشريع استقبال بيت المقدس وحالة تحويل الاستقبال إلى الكعبة. وذكر عبد الحكيم (١) أنه قد روي أن بعض العرب ارتدوا عن الإسلام لما استقبل رسول الله بيت المقدس حمية لقبلة العرب ، واليهود كانوا تأولوا لأنفسهم العذر في التظاهر بالإسلام كما قررناه عند قوله تعالى : (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا) [البقرة : ١٤] فنافقوا وهم يتأولون للصلاة معه بأنها عبادة لله تعالى وزيادة على صلواتهم التي هم محافظون عليها إذا خلوا إلى شياطينهم مع أن صلاتهم مع المسلمين لا تشتمل على ما ينافي تعظيم شعائرهم إذ هم مستقبلون بيت المقدس فلما حولت القبلة صارت صفة الصلاة منافية لتعظيم شعائرهم لأنها استدبار لما يجب استقباله فلم تبق لهم سمة للتأويل فظهر من دام على الإسلام وأعرض المنافقون عن الصلاة.
وجعل علم الله تعالى بمن يتبع الرسول ومن ينقلب على عقبيه علة هذين التشريعين يقتضي أن يحصل في مستقبل الزمان من التشريع كما يقتضيه لام التعليل وتقدير أن بعد اللام وأن حرف استقبال مع أن الله يعلم ذلك وهو ذاتي له لا يحدث ولا يتجدد لكن المراد بالعلم هنا علم حصول ذلك وهو تعلق علمه بوقوع الشيء الذي علم في الأزل أنه سيقع فهذا تعلق خاص وهو حادث لأنه كالتعلق التنجيزي للإرادة والقدرة وإن أغفل المتكلمون عدّه في تعلقات العلم (٢).
__________________
(١) أي السيالكوتي.
(٢) بعد أن كتبت هذا بسنين وجدت في الرسالة الخاقانية للمحقق عبد الحكيم السلكوتي في تحقيق المذاهب في علم الله تعالى قوله : «وقيل إن علمه تعالى له تعلقات أزلية بكل ما يصلح أن يعلم» ، وتعلقات متجددة بالمتجددات من حيث تجددها ووقوعها في أزمنة متغيرة والتغيير في التعلقات والإضافات لا يضر بكماله ، لأن ذلك التجدد ليس بنقصان في ذاته بل لأن كماله التام يقتضي أن ـ