وقيل : المراد بقوله : (ثُمَّ أَفِيضُوا) الإفاضة من مزدلفة إلى منى ، فتكون (ثم) للتراخي والترتيب في الزمن أي بعد أن تذكروا الله عند المشعر الحرام وهي من السنة القديمة من عهد إبراهيم عليهالسلام فيما يقال ، وكان عليها العرب في الجاهلية وكانت الإجازة فيها بيد خزاعة ثم صارت بعدهم لبني عدوان من قيس عيلان ، وكان آخر من تولى الإجازة منهم أبا سيّارة عميلة بن الأعزل أجاز بالناس أربعين سنة إلى أن فتحت مكة فأبطلت الإجازة وصار الناس يتبعون أمير الحج ، وكانوا في الجاهلية يخرجون من مزدلفة يوم عاشر ذي الحجة بعد أن تطلع الشمس على ثبير وهو أعلى جبل قرب منى وكان الذي يجيز بهم يقف قبيل طلوع الشمس مستقبل القبلة ويدعو بدعاء يقول فيه : «اللهم بغّض بين رعائنا ، وحبّب بين نسائنا ، واجعل المال في سمحائنا ، اللهم كن لنا جارا ممن نخافه ، أوفوا بعهدكم ، وأكرموا جاركم ، وأقروا ضيفكم» ، فإن قرب طلوع الشمس قال : «أشرق ثبير كيما نغير» ويركب أبو سيارة حمارا أسود فإذا طلعت الشمس دفع بهم وتبعه الناس وقد قال في ذلك راجزهم :
خلّوا السبيل عن أبي سيّاره |
|
وعن مواليه بني فزاره |
حتّى يجيز سالما حماره |
|
مستقبل القبلة يدعو جاره |
أي يدعو الله تعالى لقوله : «اللهم كن لنا جارا ممن نخافه.
فقوله : (مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) أي من المكان الذي يفيض منه سائر الناس وهو مزدلفة. وعبر عنه بذلك لأن العرب كلهم يجتمعون في مزدلفة ، ولو لا ما جاء من الحديث لكان هذا التفسير أظهر لتكون الآية ذكرت الإفاضتين بالصراحة وليناسب قوله بعد : (فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ) [البقرة : ٢٠٠].
وقوله : (مِنْ رَبِّكُمْ) عطف على (أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) أمرهم بالاستغفار كما أمرهم بذكر الله عند المشعر الحرام. وفيه تعريض بقريش فيما كانوا عليه من ترك الوقوف بعرفة.
(فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (٢٠٠) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ (٢٠١) أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (٢٠٢))