تفريع على قوله : (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) [البقرة : ١٩٩] لأن تلك الإفاضة هي الدفع من مزدلفة إلى منى أو لأنها تستلزم ذلك ومنى هي محل رمي الجمار ، وأشارت الآية إلى رمي جمرة العقبة يوم عاشر ذي الحجة فأمرت بأن يذكروا الله عند الرمي ثم الهدي بعد ذلك وقد تم الحج عند ذلك ، وقضيت مناسكه.
وقد أجمعوا على أن الحاج لا يرمي يوم النحر إلّا جمرة العقبة من بعد طلوع الشمس إلى الزوال ثم ينحر بعد ذلك ، ثم يأتي الكعبة فيطوف طواف الإفاضة وقد تم الحج وحل للحاج كل شيء إلّا قربان النساء.
والمناسك جمع منسك مشتق من نسك نسكا من باب نصر إذا تعبد وقد تقدم في قوله تعالى : (وَأَرِنا مَناسِكَنا) [البقرة : ١٢٨] فهو هنا مصدر ميمي أو هو اسم مكان والأول هو المناسب لقوله : (قَضَيْتُمْ) ؛ لئلا نحتاج إلى تقدير مضاف أي عبادات مناسككم.
وقرأ الجميع (مَناسِكَكُمْ) بفك الكافين وقرأه السوسي عن أبي عمرو بإدغامهما وهو الإدغام الكبير (١).
وقوله : (فَاذْكُرُوا اللهَ) أعاد الأمر بالذكر بعد أن أمر به وبالاستغفار تحضيضا عليه وإبطالا لما كانوا عليه في الجاهلية من الاشتغال بفضول القول والتفاخر ، فإنه يجر إلى المراء والجدال ، والمقصد أن يكون الحاج منغمسا في العبادة فعلا وقولا واعتقادا.
وقوله : (كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ) بيان لصفة الذكر ، فالجار والمجرور نعت لمصدر محذوف أي ذكرا كذكركم إلخ إشارة إلى ما كانوا عليه من الاشتغال في أيام منى بالتفاخر بالأنساب ومفاخر أيامهم ، فكانوا يقفون بين مسجد منى أي موضعه وهو مسجد الخيف وبين الجبل (أي جبل منى الذي مبدؤه العقبة التي ترمى بها الجمرة) فيفعلون ذلك.
وفي «تفسير ابن جرير» عن السدي : كان الرجل يقوم فيقول : اللهم إن أبي كان عظيم القبة عظيم الجفنة كثير المال فأعطني مثل ما أعطيته ، فلا يذكر غير أبيه وذكر أقوالا
__________________
(١) الإدغام ينقسم إلى كبير وصغير ، فالكبير هو ما كان فيه المدغم والمدغم فيه متحركين سواء كانا مثلين أو جنسين أو متقاربين ، سمي به لأنه يسكن الأول ويدغم في الثاني فيحصل فيه عملان فصار كبيرا. والصغير هو ما كان فيه المدغم ساكنا فيدغم في الثاني فيحصل فيه عمل واحد ولذا سمي به. انظر «الإتقان» و «شرح الشاطبي».