ويعلمهم بالجزاء.
فقوله تعالى : (فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ) هو على الوجه الأول مفرع على ما يؤذن به قوله : (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) مع تحقق وجود الخلاف بينهم بالمشاهدة من إرادة أن كونهم امة واحدة دام مدة ثم انقضى ، فيكون مفرعا على جملة مقدرة تقديرها فاختلفوا فبعث الله النبيئين ، وعلى الوجه الآخر مفرعا على الكون أمة واحدة في الباطل فعلى الأول يكون أول النبيين المبعوثين نوحا ، لأنه أول الرسل لإصلاح الخلق. وعلى الثاني : يكون أولهم آدم بعث لبنيه لما قتل أحدهم أخاه ؛ فإن الظاهر أن آدم لم يبعث بشريعة لعدم الدواعي إلى ذلك ، وإنما كان مرشدا كما يرشد المربي عائلته.
والمراد بالنبيين هنا الرسل بقرينة قوله : (وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِ) والإرسال بالشرائع متوغل في القدم وقبله ظهور الشرط وهو أصل ظهور الفواحش لأن الاعتقاد الفاسد أصل ذميم الفعال ، وقد عبد قوم نوح الأصنام ، عبدوا ودا وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا وهم يومئذ لم يزالوا في مواطن آدم وبنيه في (جبال نوذ) من بلاد الهند كما قيل ، وفي البخاري عن ابن عباس أن ودّا وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا كانوا من صالحي قوم نوح ، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابا وسموها بأسمائهم ففعلوا فلم تعبد ، حتى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم عبدت ا ه ، وقيل كانوا من صالحي قوم آدم ، وقيل إن سواعا هو ابن شيث وأن يغوث ابن سواع ويعوق ابن سغوث ونسر بن يعوق ، وقيل إنهم من صالحي عصر آدم ماتوا فنحت قابيل بن آدم لهم صورا ثم عبدوهم بعد ثلاثة أجيال (١) ، وهذا كله زمن متوغل في القدم قبل التاريخ فلا يؤخذ إلّا بمزيد الاحتراز ، وأقدم شريعة أثبتها التاريخ شريعة برهمان في الهند فإنها تبتدئ من قبل القرن الثلاثين قبل الهجرة. وفي هذا العهد كانت في العراق شريعة عظيمة ببابل وضعها ملك بابل المدعو (حمورابي) ويظن المؤرخون أنه كان معاصرا لإبراهيم عليهالسلام وأنه المذكور في «سفر التكوين» باسم (ملكي صادق) الذي لقي إبراهيم في شاليم وبارك إبراهيم ودعا له.
والبعث : الإرسال والإنهاض للمشي ومنه بعث البعير إذا أنهضه بعد أن برك والبعث
__________________
(١) في «صحيح البخاري» و «كتاب ابن الكلبي» أن هذه الأصنام عبدت في العرب وقد بينت ذلك في «تاريخ العرب في الجاهلية».