المشركون للحج فقال لهم (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) فأخرها آخر المحرم من عام عشرة من الهجرة ، ثم قال : (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ) أي تلك الأشهر الأربعة (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) فنسخ تحريم القتال في الأشهر الحرم ، لأن المشركين جمع معرف بلام الجنس وهو من صيغ العموم وعموم الأشخاص يستلزم عموم الأزمنة والأمكنة على التحقيق ، ولذلك قاتل النبي صلىاللهعليهوسلم ثقيفا في شهر ذي القعدة عقب فتح مكة كما في كتب الصحيح. وأغزى أبا عامر إلى أوطاس في الشهر الحرام ، وقد أجمع المسلمون على مشروعية الغزو في جميع أشهر السنة يغزون أهل الكتاب وهم أولى بالحرمة في الأشهر الحرم من المشركين.
فإن قلت : إذا نسخ تحريم القتال في الأشهر الحرم فما معنى قول النبيصلىاللهعليهوسلم في خطبة الوداع «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا» فإن التشبيه يقتضي تقرير حرمة الأشهر. قلت : إن تحريم القتال فيها تبع لتعظيمها وحرمتها وتنزيهها عن وقوع الجرائم والمظالم فيها فالجريمة فيها تعد أعظم منها لو كانت في غيرها. والقتال الظلم محرم في كل وقت ، والقتال لأجل الحق عبادة فنسخ تحريم القتال فيها لذلك وبقيت حرمة الأشهر بالنسبة لبقية الجرائم.
وأحسن من هذا أن الآية قررت حرمة القتال في الأشهر الحرم لحكمة تأمين سبل الحج والعمرة ، إذ العمرة أكثرها في رجب ولذلك قال : (قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ) واستمر ذلك إلى أن أبطل النبي صلىاللهعليهوسلم الحجّ على المشركين في عام حجة أبي بكر بالناس ؛ إذ قد صارت مكة بيد المسلمين ودخل في الإسلام قريش ومعظم قبائل العرب والبقية منعوا من زيارة مكة ، وأن ذلك كان يقتضي إبطال تحريم القتال في الأشهر الحرم ؛ لأن تحريمه فيها لأجل تأمين سبيل الحج والعمرة. وقد تعطل ذلك بالنسبة للمشركين ولم يبق الحج إلّا للمسلمين وهم لا قتال بينهم ، إذ قتال الظلم محرم في كل زمان وقتال الحق يقع في كل وقت ما لم يشغل عنه شاغل مثل الحج ، فتسميته نسخا تسامح ، وإنما هو انتهاء مورد الحكم ، ومثل هذا التسامح في الأسماء معروف في كلام المتقدمين ، ثم أسلم جميع المشركين قبل حجة الوداع وذكر النبي صلىاللهعليهوسلم حرمة الأشهر الحرم في خطبته ، وقد تعطل حينئذ العمل بحرمة القتال في الأشهر الحرم ، إذ لم يبق مشرك يقصد الحج. فمعنى نسخ تحريم القتال في الأشهر الحرم أن الحاجة إليه قد انقضت كما انتهى مصرف المؤلّفة قلوبهم من مصارف الزكاة بالإجماع لانقراضهم.