عن إلهام إلهي فلعل حكمة ذلك حينئذ أن الله أراد تعمير البلد المقدس كما وعد إبراهيم ووعد موسى فأراد زيادة تغلغل قلوب الإسرائيليين في التعلق به فبين لهم استقبال الهيكل الإيماني الذي أقامه فيه نبيه سليمان ليكون ذلك المعبد مما يدعو نفوسهم إلى الحرص على بقاء الأقطار بأيديهم.
ويجوز أن يكون قد شرع الله لهم الاستقبال بعد ذلك على ألسنة الأنبياء بعد سليمان وفيه بعد لأن أنبياءهم لم يأتوا بزيادة على شريعة موسى وإنما أتوا معززين فتشريعه الله تعالى استقبال المسلمين في صلاتهم لجهة معينة تكميل لمعنى الخشوع في صلاة الإسلام فيكون من التكملات التي ادخرها الله تعالى لهذه الشريعة لتكون تكملة الدين تشريفا لصاحبهاصلىاللهعليهوسلم ولأمته إن كان الاحتمال الأول ، فإن كان الثاني فالأمر لنا بالاستقبال لئلا تكون صلاتنا أضعف استحضارا لجلال الله تعالى من صلاة غيرنا.
ولذلك اتفق علماؤنا على أن الاستقبال لجهة معينة كان مقارنا لمشروعية الصلاة في الإسلام فإن كان استقباله جهة الكعبة عن اجتهاد من النبي صلىاللهعليهوسلم فعلّته أنه المسجد الذي عظمه أهل الكتابين والذي لم يداخله إشراك ولا نصبت فيه أصنام فكان ذلك أقرب دليل لاستقبال جهته ممن يريد استحضار وحدانية الله تعالى ، وإن كان استقبال بيت المقدس بوحي من الله تعالى فلعل حكمته تأليف قلوب أهل الكتابين وليظهر بعد ذلك للنبي وللمسلمين من اتبعهم من أهل الكتاب حقا ومن اتبعهم نفاقا لأن الأخيرين قد يتبعون الإسلام ظاهرا ويستقبلون في صلاتهم قبلتهم القديمة فلا يرون حرجا على أنفسهم في ذلك فإذا تغيرت القبلة خافوا من قصدهم لاستدبارها فأظهروا ما كانوا مستبطينه من الكفر كما أشار له قوله تعالى : (وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ) [البقرة : ١٤٢] الآية.
ولعل العدول عن الأمر باستقبال الكعبة في صدر الإسلام كان لخضد شوكة مكابرة قريش وطعنهم في الإسلام فإنه لو استقبل مكة لشمخوا بأنوفهم وقالوا هذا بلدنا ونحن أهله واستقباله حنين إليه وندامة على الهجرة منه ، كما قد يكون قوله تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ) [البقرة : ١١٤] وقوله : (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) [البقرة : ١١٥] إيماء إليه كما قدمناه ، وعليه ففي تحويل القبلة إلى الكعبة بعد ذلك بشارة للنبي صلىاللهعليهوسلم بأن أمر قريش قد أشرف على الزوال وأن وقعة بدر ستكون الفيصل بين المسلمين وبينهم ، ثم أمر الله بتحويل القبلة إلى البيت الذي هو أولى بذلك وإلى جهته للبعيد عنه.