والسامع يعلم إرجاع كل ضرب من ضروب اتباع أهوائهم إلى ضرب من ضروب ظلم النفس حتى ينتهي إلى عقائدهم الضالة فينتهي ظلمهم أنفسهم إلى الكفر الملقي في خالد العذاب.
قد يقول قائل إن قريبا من هذه الجملة تقدم عند قوله تعالى : (قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) [البقرة : ١٢٠] فعبر هنالك باسم الموصول (الذي) وعبر هنا باسم الموصول (ما) ، وقال هنالك «بعد» وقال هنا «من بعد» ، وجعل جزاء الشرط هنالك انتفاء وليّ ونصير ، وجعل الجزاء هنا أن يكون من الظالمين ، وقد أورد هذا السؤال صاحب «درّة التنزيل وغرّة التأويل» (١) وحاول إبداء خصوصيات تفرق بين ما اختلفت فيه الآيتان ولم يأت بما يشفي ، والذي يرشد إليه كلامه أن نقول إن (الذي) و (ما) وإن كانا مشتركين في أنهما اسما موصول إلّا أنهما الأصل في الأسماء الموصولة ، ولما كان العلم الذي جاء النبي صلىاللهعليهوسلم في غرض الآية الأولى هو العلم المتعلق بأصل ملة الإسلام وببطلان ملة اليهود وملة النصارى بعد النسخ ، وبإثبات عناد الفريقين في صحة رسالة محمد صلىاللهعليهوسلم وذلك ابتداء من قوله تعالى : (وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ) [البقرة : ١١٦] ـ إلى قوله ـ (قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى) [البقرة : ١٢٠] ، فلا جرم كان العلم الذي جاء في ذلك هو أصرح العلم وأقدمه ، وكان حقيقا بأن يعبر عنه باسم الموصول الصريح في التعريف.
وأما الآية الثانية التي نحن بصددها فهي متعلقة بإبطال قبلة اليهود والنصارى ، لأنها مسبوقة ببيان ذلك ابتداء من قوله : (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها) [البقرة : ١٤٢] وذلك تشريع فرعي فالتحذير الواقع بعده تحذير من اتباع الفريقين في أمر القبلة وذلك ليس له أهمية مثل ما للتحذير من اتباع ملتهم بأسرها فلم يكن للعلم الذي جاء النبي في أمر قبلتهم من الأهمية ما للعلم الذي جاءه في بطلان أصول ملتهم ، فلذلك جيء في تعريفه باسم الموصول الملحق بالمعارف وهو (ما) لأنها في الأصل نكرة موصوفة نقلت للموصولية.
وإنما أدخلت (من) في هذه الآية الثانية على (بعد) بقوله : (مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ
__________________
(١) وهو الإمام فخر الدين الرازي المتوفي سنة (٦٠٦ ه). تكلم فيه على الآيات المتكررة بالكلمات المتفقة والمختلفة التي يقصد الملحدون التطلاق منها إلى عيبها ، وأجاب عنها.