الطلاق لا يقع إلا طلقتين مقترنتين لا أكثر ولا أقل ، ومن توهم ذلك فاحتاج إلى تأويل لدفعه فقد أبعد عن مجاري الاستعمال العربي ، ولقد أكثر جماعة من متعاطي التفسير الاحتمالات في هذه الآية والتفريع عليها ، مدفوعين بأفهام مولدة ، ثم طبقوها على طرائق جدلية في الاحتجاج لاختلاف المذاهب في إثبات الطلاق البدعي أو نفيه ، وهم في إرخائهم طول القول ناكبون عن معاني الاستعمال ، ومن المحققين من لم يفته المعنى ولم تف به عبارته كما وقع في «الكشاف».
ويجوز أن يكون تعريف الطلاق تعريف العهد ، والمعهود هو ما يستفاد من قوله تعالى: (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ) ـ إلى قوله ـ (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَ) [البقرة : ٢٢٨] فيكون كالعهد في تعريف الذّكر في قوله تعالى : (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى) [آل عمران : ٣٦] فإنه معهود مما استفيد من قوله : (إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي) [آل عمران : ٣٥].
وقوله : (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ) جملة مفرعة على جملة (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) فيكون الفاء للتعقيب في مجرد الذكر ، لا في وجود الحكم. و (إمساك) خبر مبتدأ محذوف تقديره فالشأن أو فالأمر إمساك بمعروف أو تسريح على طريقة (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) [يوسف : ١٨] وإذ قد كان الإمساك والتسريح ممكنين عند كل مرة من مرتي الطلاق ، كان المعنى فإمساك أو تسريح في كل مرة من المرتين ، أي شأن الطلاق أن تكون كل مرة منه معقبة بإرجاع بمعروف أو ترك بإحسان ، أي دون ضرار في كلتا الحالتين. وعليه فإمساك وتسريح مصدران ، مراد منهما الحقيقة والاسم ، دون إرادة نيابة عن الفعل ، والمعنى أن المطلق على رأس أمره فإن كان راغبا في امرأته فشأنه إمساكها أي مراجعتها ، وإن لم يكن راغبا فيها فشأنه ترك مراجعتها فتسرح ، والمقصود من هذه الجملة إدماج الوصاية بالإحسان في حال المراجعة ، وفي حال تركها ، فإن الله كتب الإحسان على كل شيء ، إبطالا لأفعال أهل الجاهلية ؛ إذ كانوا قد يراجعون المرأة بعد الطلاق ثم يطلقونها دواليك ، لتبقى زمنا طويلا في حالة ترك إضرارا بها ، إذ لم يكن الطلاق عندهم منتهيا إلى عدد لا يملك بعده المراجعة ، وفي هذا تمهيد لما يرد بعده من قوله : (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً) الآية.
ويجوز أن يكون إمساك وتسريح مصدرين جعلا بدلين من فعليهما ، على طريقة المفعول المطلق الآتي بدلا من فعله ، وأصلهما النصب ، ثم عدل عن النصب إلى الرفع لإفادة معنى الدوام ، كما عدل عن النصب إلى الرفع في قوله تعالى : (قالَ سَلامٌ) [هود :