تفصيل هذه المسألة عند قوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) في آخر السورة.
وجملة (لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها) اعتراض ثان ، ولم تعطف على التي قبلها تنبيها على أنها مقصودة لذاتها ، فإنها تشريع مستقل ، وليس فيها معنى التعليل الذي في الجملة قبلها بل هي كالتفريع على جملة (لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها) ؛ لأن إدخال الضر على أحد بسبب ما هو بضعة منه ، يكاد يخرج عن طاقة الإنسان ؛ لأن الضرار تضيق عنه الطاقة ، وكونه بسبب من يترقب منه أن يكون سبب نفع أشد ألما على النفس ، فكان ضره أشد. ولذلك اختير لفظ الوالدة هنا دون الأم كما تقدم في قوله : (يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَ) وكذلك القول في (وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ) وهذا الحكم عام في جميع الأحوال من فراق أو دوام عصمة ، فهو كالتذييل ، وهو نهي لهما عن أن يكلف أحدهما الآخر ما هو فوق طاقته ، ويستغل ما يعلمه من شفقة الآخر على ولده فيفترص ذلك لإحراجه ، والإشفاق عليه.
وفي «المدونة» : عن ابن وهب عن الليث عن خالد بن يزيد عن زيد بن أسلم في قوله تعالى : (لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها) الآية «يقول ليس لها أن تلقي ولدها عليه ولا يجد من يرضعه ، وليس له أن ينتزع منها ولدها ، وهي تحب أن ترضعه» وهو يؤيد ما ذكرناه.
وقيل : الباء في قوله : (بِوَلَدِها) و (بِوَلَدِهِ) باء الإلصاق وهي لتعدية (تُضَارَّ) فيكون مدخول الباء مفعولا في المعنى لفعل (تُضَارَّ) وهو مسلوب المفاعلة مراد منه أصل الضر ، فيصير المعنى : لا تضر الوالدة ولدها ولا المولود له ولده أي لا يكن أحد الأبوين بتعنته وتحريجه سببا في إلحاق الضر بولده أي سببا في إلجاء الآخر إلى الامتناع مما يعين على إرضاع الأم ولدها فيكون في استرضاع غير الأم تعريض المولود إلى الضر ونحو هذا من أنواع التفريط.
وقرأ الجمهور : (لا تضار) بفتح الراء مشددة على أن (لا) حرف نهي و (تضار) مجزوم بلا الناهية والفتحة للتخلص من التقاء الساكنين الذي نشأ عن تسكين الراء الأولى ليتأتى الإدغام وتسكين الراء الثانية للجزم وحرك بالفتحة لأنها أخف الحركات. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو برفع الراء على أن (لا) حرف نفي والكلام خبر في معنى النهي ، وكلتا القراءتين يجوز أن تكون على نية بناء الفعل للفاعل بتقدير : لا (تضارر) بكسر الراء الأولى وبنائه للنائب بتقدير فتح الراء الأولى ، وقرأه أبو جعفر بسكون الراء مخففة مع إشباع المد كذا نقل عنه في كتاب «القراءات» والظاهر أنه جعله من ضار يضير لا من ضار