والمقصود من هذا موعظة المسلمين بترك الجبن ، وأن الخوف من الموت لا يدفع الموت ، فهؤلاء الذين ضرب بهم هذا المثل خرجوا من ديارهم خائفين من الموت ، فلم يغن خوفهم عنهم شيئا ، وأراهم الله الموت ثم أحياهم ، ليصير خلق الشجاعة لهم حاصلا بإدراك الحس. ومحل العبرة من القصة هو أنهم ذاقوا الموت الذي فروا منه ، ليعلموا أن الفرار لا يغني عنهم شيئا ، وأنهم ذاقوا الحياة بعد الموت ، ليعلموا أن الموت والحياة بيد الله ، كما قال تعالى : (قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ) [الأحزاب : ١٦].
وجملة : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) الآية هي المقصود الأول ، فإن ما قبلها تمهيد لها كما علمت ، وقد جعلت في النظم معطوفة على جملة (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) عطفا على الاستئناف ، فيكون لها حكم جملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا ، ولو لا طول الفصل بينها وبين جملة (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ) [البقرة : ٢١٦] ، لقلنا : إنها معطوفة عليها على أن اتصال الغرضين يلحقها بها بدون عطف.
وجملة (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) حث على القتال وتحذير من تركه بتذكيرهم بإحاطة علم الله تعالى بجميع المعلومات : ظاهرها وباطنها. وقدّم وصف سميع ، وهو أخص من عليم ، اهتماما به هنا ؛ لأن معظم أحوال القتال في سبيل الله من الأمور المسموعة ، مثل جلبة الجيش وقعقعة السلاح وصهيل الخيل. ثم ذكر وصف عليم لأنه يعم العلم بجميع المعلومات ، وفيها ما هو من حديث النفس مثل خلق الخوف ، وتسويل النفس القعود عن القتال ، وفي هذا تعريض بالوعد والوعيد. وافتتاح الجملة بقوله : (وَاعْلَمُوا) للتنبيه على ما تحتوي عليه من معنى صريح وتعريض ، وقد تقدم قريبا عند قوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ) [البقرة : ٢٢٣].
(مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٤٥))
اعتراض بين جملة : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) [البقرة : ٢٤٣] إلى آخرها ، وجملة (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ) [البقرة : ٢٤٦] الآية ، قصد به الاستطراد للحث على الإنفاق لوجه الله في طرق البر ، لمناسبة الحث على القتال ، فإن القتال يستدعي إنفاق المقاتل على نفسه في العدّة والمئونة مع الحث على إنفاق الواجد فضلا في سبيل الله بإعطاء العدّة لمن لا عدّة له ، والإنفاق على المعسرين من الجيش ، وفيها تبيين لمضمون