فحصل من تفصيل هذه الحالة أعظم الترقّب لثمرة هذه الجنة كما كان المعطي صدقته في ترقّب لثوابها.
فأصابها إعصار ، أي ريح شديدة تقلع الشجر والنبات ، فيها نار أي شدة حرارة ـ وهي المسمّاة بريح السموم ، فإطلاق لفظ نار على شدة الحر تشبيه بليغ ، فأحرقت الجنّة ـ أي أشجارها ـ أي صارت أعوادها يابسة ، فهذا مفاجأة الخيبة في حين رجاء المنفعة.
والاستفهام في قوله : (أَيَوَدُّ) استفهام إنكار وتحذير كما في قوله : (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً) [الحجرات : ١٢]. والهيئة المشبّهة محذوفة وهي هيئة المنفق نفقة متبعة بالمنّ والأذى.
روى البخاري أنّ عمر بن الخطاب سأل يوما أصحاب رسول اللهصلىاللهعليهوسلم فيم ترون هذه الآية نزلت : (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ) الآية ، فقال بعضهم : «الله أعلم» ، فغضب عمر وقال : «قولوا نعلم أو لا نعلم» ، فقال ابن عباس : «في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين» ، فقال عمر : يا ابن أخي قل ولا تحقر نفسك» ، قال ابن عباس : «ضربت مثلا لعمل» ، قال عمر : «أيّ عمل» ، قال ابن عباس : «لعمل» ، قال : صدقت ، لرجل غني يعمل بطاعة الله ، ثم بعث الله عزوجل إليه الشيطان لما فني عمره فعمل في المعاصي حتى أحرق عمله.
وقوله : (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ) تذييل ، أي كهذا البيان الذي فيه تقريب المعقول بالمحسوس بين الله نصحا لكم ، رجاء تفكّركم في العواقب حتى لا تكونوا على غفلة. والتشبيه في قوله : (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ) نحو ما في قوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) [البقرة : ١٤٣].
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٢٦٧))
إفضاء إلى المقصود وهو الأمر بالصدقات بعد أن قدم بين يديه مواعظ وترغيب وتحذير. وهي طريقة بلاغية في الخطابة والخطاب. فربما قدموا المطلوب ثم جاءوا بما يكسبه قبولا عند السامعين ، وربما قدموا ما يكسب القبول قبل المقصود كما هنا. وهذا من ارتكاب خلاف مقتضى الظاهر في ترتيب الجمل ، ونكتة ذلك أنّه قد شاع بين الناس