غني فأعطوا لوجهه ما يقبله المحتاج بكل حال ولم يعلموا أنّه يحمد من يعطي لوجهه من طيّب الكسب.
والغني الذي لا يحتاج إلى ما تكثر حاجة غالب الناس إليه ، ولله الغنى المطلق فلا يعطى لأجله ولامتثال أمره إلّا خير ما يعطيه أحد للغني عن المال.
والحميد من أمثلة المبالغة ، أي شديد الحمد ؛ لأنه يثني على فاعلي الخيرات. ويجوز أن يكون المراد أنّه محمود ، فيكون حميد بمعنى مفعول ، أي فتخلّقوا بذلك لأنّ صفات الله تعالى كمالات ، فكونوا أغنياء القلوب عن الشحّ محمودين على صدقاتكم ، ولا تعطوا صدقات تؤذن بالشحّ ولا تشكرون عليها.
(الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦٨))
(الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ).
استئناف عن قوله : (أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ) [البقرة : ٢٦٧] لأنّ الشيطان يصدّ الناس عن إعطاء خيار أموالهم ، ويغريهم بالشحّ أو بإعطاء الرديء والخبيث ، ويخوّفهم من الفقر إن أعطوا بعض مالهم.
وقدّم اسم الشيطان مسندا إليه لأنّ تقديمه مؤذن بذمّ الحكم الذي سيق له الكلام وشؤمه لتحذير المسلمين من هذا الحكم ، كما يقال في مثال علم المعاني «السّفّاح في دار صديقك» ، ولأنّ في تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي تقوّي الحكم وتحقيقه.
ومعنى (يَعِدُكُمُ) يسوّل لكم وقوعه في المستقبل إذا أنفقتم خيار أموالكم ، وذلك بما يلقيه في قلوب الذين تخلّقوا بالأخلاق الشيطانية. وسمّي الإخبار بحصول أمر في المستقبل وعدا مجازا لأنّ الوعد إخبار بحصول شيء في المستقبل من جهة المخبر ، ولذلك يقال : أنجز فلان وعده أو أخلف وعده ، ولا يقولون أنجز خبره ، ويقولون صدق خبره وصدق وعده ، فالوعد أخصّ من الخبر ، وبذلك يؤذن كلام أئمة اللغة. فشبّه إلقاء الشيطان في نفوسهم توقّع الفقر بوعد منه بحصوله لا محالة ، ووجه الشبه ما في الوعد من معنى التحقق ، وحسّن هذا المجاز هنا مشاكلته لقوله : (وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً) فإنّه وعد حقيقي.