يستعفف يعفّه الله ، ومن يستغن يغنه الله ، ومن يتصبّر يصبّره الله»
. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو والكسائي وخلف ويعقوب يحسبهم بكسر السين وقرأه الباقون بفتح السين ، وهما لغتان.
ومعنى (تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ) أي بعلامة الحاجة والخطاب لغير معيّن ليعم كلّ مخاطب ، وليس للرسول لأنّه أعلم بحالهم. والمخاطب بتعرفهم هو الذي تصدّى لتطّلع أحوال الفقراء ، فهو المقابل للجاهل في قوله : (يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ).
والجملة بيان لجملة (يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ) ، كأنّه قيل : فبما ذا تصل إليهم صدقات المسلمين إذا كان فقرهم خفيّا ، وكيف يطّلع عليهم فأحيل ذلك على مظنّة المتأمّل كقوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ) [الحجر : ٧٥].
والسيما العلامة ، مشتقة من سام الذي هو مقلوب وسم ، فأصلها وسمى ، فوزنها عفلى ، وهي في الصورة فعلى ، يدل لذلك قولهم سمة ؛ فإنّ أصلها وسمة. ويقولون سيما بالقصر وسيماء بالمد وسيمياء بزيادة ياء بعد الميم وبالمد ، ويقولون سوّم إذا جعل سمة. وكأنّهم إنّما قلبوا حروف الكلمة لقصد التوصّل إلى التخفيف بهذه الأوزان لأنّ قلب عين الكلمة متأتّ بخلاف قلب فائها. ولم يسمع من كلامهم فعل مجرد من سوّم المقلوب ، وإنّما سمع منه فعل مضاعف في قولهم سوّم فرسه.
وقوله : (لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) بيان لقوله يحسبهم الجاهل أغنياء بيانا ثانيا ، لكيفية حسبانهم أغنياء في أنّهم لا يسألون الناس. وكان مقتضى الظاهر تقديمه على الذي قبله إلّا أنّه أخّر للاهتمام بما سبقه من الحقّ على توسّم احتياجهم بأنّهم محصرون لا يستطيعون ضربا في الأرض لأنّه المقصود من سياق الكلام.
فأنت ترى كيف لم يغادر القرآن شيئا من الحثّ على إبلاغ الصدقات إلى أيدي الفقراء إلّا وقد جاء به ، وأظهر به مزيد الاعتناء.
والإلحاف الإلحاح في المسألة. ونصب على أنّه مفعول مطلق مبيّن للنوع ، ويجوز أن يكون حالا من ضمير يسألون بتأويل ملحفين. وأيّا ما كان فقد نفي عنهم السؤال المقيّد بالإلحاف أو المقيدون فيه بأنّهم ملحفون ـ وذلك لا يفيد نفي صدور المسألة منهم ـ مع أنّ قوله : (يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ) يدل على أنّهم لا يسألون أصلا ، وقد تأوّله الزجاج والزمخشري بأنّ المقصود نفي السؤال ونفي الإلحاف معا كقول امرئ