القيس :
على لاحب لا يهتدى بمناره
يريد نفي المنار والاهتداء ، وقرينة هذا المقصود أنّهم وصفوا بأنّهم يحسبون أغنياء من التعفّف ، ونظيره قوله تعالى : (ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ) [غافر : ١٨] أي لا شفيع أصلا ، ثم حيث لا شفيع فلا إطاعة ، فأنتج لا شفيع يطاع ، فهو مبالغة في نفي الشفيع لأنّه كنفيه بنفي لازمه وجعلوه نوعا من أنواع الكناية ، وقال التفتازاني : «إنّما تحسن هذه الطريقة إذا كان القيد الواقع بعد النفي بمنزلة اللازم للنفي لأنّ شأن اللّاحب أن يكون له منار ، وشأن الشفيع أن يطاع ، فيكون نفي اللازم نفيا للملزوم بطريق برهاني ، وليس الإلحاف بالنسبة إلى السؤال كذلك ، بل لا يبعد أن يكون ضدّ الإلحاف ـ وهو الرفق والتلطّف ـ أشبه باللازم» (أي أن يكون المنفي مطرد اللزوم للمنفي عنه). وجوّز صاحب «الكشاف» أن يكون المعنى أنّهم إن سألوا سألوا بتلطّف خفيف دون إلحاف ، أي إنّ شأنهم أن يتعفّفوا ، فإذا سألوا سألوا بغير إلحاف ، وهو بعيد لأنّ فصل الجملة عن التي قبلها دليل على أنّها كالبيان لها ، والأظهر الوجه الأول ـ الذي جعل في «الكشاف» ثانيا ـ وأجاب الفخر بأنّه تعالى وصفهم بالتعفّف فأغنى عن ذكر أنّهم لا يسألون ، وتعين أنّ قوله : (لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) تعريض بالملحفين في السؤال ، أي زيادة فائدة في عدم السؤال.
(وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ).
أعيد التحريض على الإنفاق فذكر مرة رابعة ، وقوله : (فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) كناية عن الجزاء عليه لأن العلم يكنّى به عن أثره كثيرا ، فلما كان الإنفاق مرغّبا فيه من الله ، وكان علم الله بذلك معروفا للمسلمين ، تعيّن أن يكون الإخبار بأنّه عليم به أنّه عليم بامتثال المنفق ، أي فهو لا يضيع أجره إذ لا يمنعه منه مانع بعد كونه عليما به ، لأنّه قدير عليه. وقد حصل بمجموع هذه المرات الأربع من التحريض ما أفاد شدة فضل الإنفاق بأنّه نفع للمنفق ، وصلة بينه وبين ربّه ، ونوال الجزاء من الله ، وأنّه ثابت له في علم الله.
(الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٤))
جملة مستأنفة تفيد تعميم أحوال فضائل الإنفاق بعد أن خصّص الكلام بالإنفاق